من فقه السيرة النبوية فى ( حياة الرسول صل الله عليه وسلم ) للشيخ سامى محمود "

(ج) وكان عقبة بن أبي معيط الجار الثاني : لرسول الله صل الله عليه وسلم ـ وكان من أشد الناس عداوة وإيذاءً له , ومما فعله هذا الشقي أنه بينما كان الرسول صل الله عليه وسلم ـ في حجر الكعبة , إذ أقبل فوضع ثوبه في عنق رسول الله صل الله عليه وسلم ـ وخنقه خنقا شديداً فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صل الله عليه وسلم ـ وهو يُردد قول الله تعالى أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) ؟ ؛ وكان جزاء أبي بكر أن ضربه المشركون حتى فقد الوعي , وحمل إلى بيته , ولم يرض أن يأكل أو يشرب حتى يطمئن على رسول الله صل الله عليه وسلم ـ فلما قيل له أنه بخير , أصر على الخروج ليراه بنفسه , واطمأن عليه , ثم عاد إلى منزله . ( 51 )

(د ) وكان أبو جهل واسمه عمرو بن هشام ـ قد اتفق مع قريش على أن يؤذي الرسول صل الله عليه وسلم ـ وهو يُصلى , فجاءه بصخرة , وأراد أن يضعها عليه وهو ساجد , وقريش ينظرون إليه , ولكن الصخرة التصقت بيد أبي جهل , ويبست يداه إلى عنقه , ورجع إلى الخلف , ثم سأل أبو الجهل الرسول صل الله عليه وسلم ـ أن يدعوا له , فدعا له , فانطلقت يداه , ولما سألته قريش عما جري له , ذكر أنه عرض له فحل ما رأيت مثله قط هم بي أن يأكلني وقد قال النبي صل الله عليه وسلم ذاك جبريل لو دنا مني لأخذه " . ( 52 )

6 ـ وقد أخذت قريش في مطاردة الرسول صل الله عليه وسلم ـ وأتباعه خوفا منها على مركزها بين العرب وحتى لا تجتمع العرب على دعوته , وزاد حقدهم عليه , وعلى أصحابه عندما سفه ألهتهم , فأخذوا يكيدون له ولأتباعه , وتعذيب وقتل المستضعفين من المؤمنين الذين ليست لهم عصبة تُدافع عنهم ومن هؤلاء :
( ا) عمار بن ياسر وهو من السابقين إلى الإسلام وكان مولى لبني مخزوم ـ أسلم هو وأبوه وأمه سمية وكما يقول ابن الأثير : إن مشركى قريش كانوا يُخرجون عمار بن ياسر وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء " أي شدة وقع الشمس على الرمل " ويُعذبونهم بحرها , فيمر بهم الرسول صل الله عليه وسلم ـ فيقول :" صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ( 53 )

ومات ياسر بسبب هذا التعذيب وكان أول شهيد في الإسلام , وأما سمية امرأته فقد وجهت إلى أبي جهل كلاما غليظاً شديداً فطعنها في قلبها بحربة كانت في يده ( وكانت أول شهيدة في الإسلام ) وقد روي ابن إسحاق عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ( أن المشركين كانوا يضربون المسلم ويُجيعونه ويُعطشونه حتى كان لا يقدر على الجلوس من شدة الضرب ليرتد عن دينه ويقول آمنت باللات والعزى , وكان بعض المسلمين يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فِراراً من آذاهم وقد فرق الله سبحانه بين هؤلاء من ارتد وانشرح صدره بقوله :" إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " سورة النحل الآية 106 ـ ( 54)

ومن هؤلاء عمار , فقد شددوا العذاب عليه , بالحر مرة , وبوضع الصخر على صدره مرة ثانية وبالإغراق في الماء محاولين قتله مرة أخري , وقالوا له لا نتركك , حتى تسب محمداً أو تقول في اللات والعزى خيراً ) ففعل فتركوه فأتي عمار النبي صل الله عليه وسلم وهو يبكي , فقال له الرسول صل الله عليه وسلم ـ ما وراءك ؟ قال شر يا رسول الله , كان الأمر كذا وكذا وقص عليه القصة ) فقال له الرسول صل الله عليه وسلم ـ كيف تجد قلبك ) ؟ قال أجده مطمئنا بالإيمان , فقال يا عمار إن عادوا فعد فأنزل الله تعالى :" إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " سورة النحل الآية106 ـ
( 55)

( ب) ومن هؤلاء أيضا بلال بن رباح رضي الله عنه ـ كان سيده أمية بن خلف ـ إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يقلبه على الرمال الملتهبة ظهراً وبطناً , ويأمر بالصخرة الضخمة فتلقى على صدره , ثم يقول له ( لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد , وتعبد اللات والعزى ) فيقول بلال ( أحد ... أحد ) محتملا هذا العذاب في سبيل دينه , وقد رآه أبو بكر ذات يوم يُعاني هذا العذاب , فاشتراه وأعتقه .
7 ـ محاولة منع الوافدين إلى مكة في موسم الحج من الاستماع إلى محمد صل الله عليه وسلم ـ ودعوته , واتفقت قريش على أن يقولوا لهؤلاء الوافدين : إن محمداً ساحر , يُفرق بين الأخ وأخيه وزوجته , وقد اقتسم المتآمرون مداخل مكة أيام موسم الحج يحذرون الناس من محمد ودعوته , ولكن الرسول صل الله عليه وسلم ـ كان يذهب إلى الحجاج في أماكن اجتماعهم ويُحدثهم عن الإسلام , ويطلب منهم أن ينصروه , لأن قريشا تُحاربه وتمنعه من تبليغ كلام ربه . ( 56 )

عن ثبات الرسول صل الله عليه وسلم ـ والمسلمين :
ثبات الرسول صل الله عليه وسلم :

لقد واجه الرسول صل الله عليه وسلم ـ من أعدائه أنواع الاستهزاء وعظيم البلاء والإيذاء , ولكن لم يزده ذلك إلا إصراراً على تبليغ الرسالة التي كلفه الله بها أن يبلغها للناس , ولقد استمر في دعوة قومه بقوة وشجاعة , وبكل حرص لبَهْتَدُوا إلى دين الإسلام وظل يحط من شأن الأصنام التي اتخذتها قريش آلهة لهم , ويسخر مما يعبدونها من دون الله , ولقد صبر على الأذى والاستهزاء تنفيذا لقول الله تعالى :" فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم " سورة الأحقاف الآية ـ25 ـ وكانت عقبة صبره التغلب على أعدائه , ونجاح دعوته وانتشار الإسلام في النهاية ؛ ولقد كان رسول الله صل الله عليه وسلم يبث الثقة في نفوس المسلمين , ويبعث في نفوسهم الأمل الواسع في انتصار الإسلام , وانتشار مبادئه , وزوال سلطان الطغاة أمام طلائعه المظفرة في المشارق والمغارب ولذلك ثبتوا على الحق وصبروا على الأذى . ( 57 )

وقد أيقن أصحابه أن الإسلام أزال الغشاوة عن أعينهم , فأبصروا الحق واتبعوه , ومسح الشك والدنس عن قلوبهم , فعرفوا اليقين الذي فُطروا عليه , وان الإسلام وصلهم بربهم الواحد القهار , وكانوا قبله حيارى , ولذلك ازدروا الأوثان المنحوتة من الأحجار , وتوجهوا للذي فطر السموات والأرض , ولم يُفرطوا في دينهم , ولم ينفضوا عن نبيهم صل الله عليه وسلم ـ على الرغم مما يُلقوه من التعذيب والاستهزاء , والأذى الذي تقشعر منه الأبدان وتشمئز منه النفوس الخيرة .ولقد كان أصحاب الرسول صل الله عليه وسلم بصبرهم , وقوة يقينهم دعائم رسالته وأصول امتدادها من بعده في جميع أنحاء العالم . ( 58 )

أسلوب جديد للمشركين ليترك الرسول صل الله عليه وسلم دعوته :

لقد ظن المشركون أن أسلوب الأذى والتعذيب والسخرية سيدفع المسلمين إلى أن ينصرفوا عن الإسلام , ويعودوا إلى دين آبائهم , وأجدادهم , غير أن ظنهم قد خاب فقد استمسك المسلمون بدينهم , وكان عددهم يزداد , ولم تُفلح طرق الاستهزاء والتعذيب في صدهم عن سبيل الله , بل زادتهم شعوراً بما في الوثنية من ضلال , وما في الإسلام من هدي ونور .
1 ـ أسلوب الترغيب :

عرضوا على الرسول صل الله عليه وسلم :

( ا) المال الذي يريده . ( ب ) الرياسة والجاه . ( ج) الملك . ( العلاج إن كان ما يقوله إنه جبريل هو تابع من الجن وليس ملكا ) ــ (59 )

2 ـ أسلوب التهديد :

أرسلوا وفدا إلى أبي طالب الذي يحمى الرسول صل الله عليه وسلم ـ لُحذره من عاقبة هذا التأييد ويُطالبه بأن يكلف ابن أخيه أن يسكت عما يدعوا إليه , وإلا فإن لقريش مع أبي طالب ؛ ومع محمد سلوكا جديداً وحساباً عسيراً .
موقف الرسول صل الله عليه وسلم :
وقد كان موقف الرسول صل الله عليه وسلم ـ هو الرفض التام للترغيب والتهديد والإصرار على مواصلة تبليغ رسالة ربه . ( 60 )

ونسوق إليك من تفصيل ذلك :

1ـ أرسلت قريش عتبة بن ربيعة ـ وهو رجل رزين هادئ , وكان سيداً مطاعاً في قومه ليقوم بأسلوب الترغيب , فذهب على رسول الله صل الله عليه وسلم وهو يُصلى وقال له : ( يا ابن أخي , إنك منا حيث قد علمت من خيارنا نسبا وحسبا , وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم , فرقت به جماعتهم , وسفهت أحلامهم , وعبت آلهتهم ودينهم , وكفرت من مضي من آبائهم , فاسمع مني , أعرض عليك أموراً تنظر فيها , لعلك تقبل منها بعضها فقال الرسول صل الله عليه وسلم :0 قل يا أبا الوليد , أسمع , قال عتبة يا ابن أخي : 1ـ إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا مالاً . ( 61)

2ـ وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا " أي جعلناك سيدا لنا " حتى لا نقطع أمراً دونك .
3ـ وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا .
4 ـ وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيا من الجن " أي تابع من الجن " لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا لك فيه أموالنا حتى نبرئك منه , فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوي .
فقال الرسول صل الله عليه وسلم ـ ( أفقد فرغت يا أبا الوليد )؟ قال نعم ك فقال الرسول صل الله عليه وسلم ـ ( فاسمع مني ) ثم قرأ عليه أول سورة فصلت ( بسم الله الرحمن الرحيم , حم , تنزيل من الرحمن الرحيم , كتب فُصلت آياته قُرآنا عربيا , لقوم يعلمون , بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون , وقالوا قلوبنا في أكنة , مما تدعونا إليه وفي آذاننا , وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون " وأخذ يقرأ حتى بلغ قوله تعالى :" فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةٍ مثل صاعقة عادِ وثمود " ( 62 )

وهنا تأثر عتبة من سماع القرآن تأثراً لم يكن يظنه , حينما ألقى أذنه لسماعها فأمسك بفم الرسول صل الله عليه وسلم ـ وطلب منه أن يكف عن القراءة ـ فلما رجع عتبة إلى قومه قريش ـ وكانوا في انتظاره ـ قال لهم : ( والله لقد سمعت من محمد قولا ما سمعت مثله قط , والله ما هو بالشعر , ولا بالكهانة , ولا بالسحر , يا معشر قريش , أطيعوني , فاجعلوها لي , خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه , فاعتزلوه , فو الله ليكونن لكلامه الذي سمعت نبأ , فإن تصيبه العرب , فقد كفيتموه بغيركم , وإن يظهر على العرب فعزه عزكم ) فقالوا ك ( لقد سحرك محمد ) فقال عتبة (هذا رأيي )
3ـ أرسلت قريش وفدا من رجالهم على أبي طالب , وقالوا ؛( يا أبا طالب ؛ إن ابن أخيك قد سب آلهتنا , وعاب ديننا , وسفه أحلامنا , وضلل آباءنا , فإما أن تكفه عنا , وإما أن تُخلي بيننا وبينه , فإنك على مثل ما نحن على خلافه ) فقال لهم أبو طالب قولا جميلا وردهم ردا رقيقا , فانصرفوا عنه . ( 63)

ومضي رسول الله صل الله عليه وسلم في طريق الدعوة الإسلامية , واستمر على ما هو عليه فاشتد غيظ قريش , وزاد غضبها على الرسول صل الله عليه وسلم فذهب الوفد مرة أخري ـ إلى أبي طالب وقالوا له ( يا أبا طالب , إن لك فينا سنا وشرفا , وإنا قد استنهيناك , أي طلبنا منك أن تنهي , ابن أخيك فلم تفعل , وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا , تسفيه أحلامنا حتى نكفه عنا , أو ننازله " أي نقاتله " وإياك في ذلك إلى أن يهلك أحد الفريقين ) ثم انصرفوا عنه . ( 64 )

حماية أبو طالب للرسول صل الله عليه وسلم :

فذهب أبو طالب على رسول الله صل الله عليه وسلم ـ وقص عليه ما حدث من قريش وما اجتمعت عليه , ويقول له إن قومك أنذروني فأبق علىَّ وعلى نفسك ولا تُحملني من الأمر مالا أطيق , ويرد عليه الرسول صل الله عليه وسلم رد الواثق بربه المؤمن بدينه ويقول ,( يا عماه : والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري , على أن أترك هذا الأمر , حتى يُظهره الله أو أهلك دونه ما تركته ) وينظر أبو طالب إلى النبي صل الله عليه وسلم وقد لمست هذه الكلمات حبات قلبه ,( فقال له : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشئ أبداً ) وهكذا فشل الإغراء والإرهاب في منع الرسول صل الله عليه وسلم ـ عن مواصلة الدعوة إلى الله ونبذ آلهتهم , وذلك بعد أن أعلن في عزم وإصرار وتصميم يُسجله لنا التاريخ على أن يقوم بتبليغ رسالة ربه , مهما يُكلفه ذلك من مشاقات وآلام . (65 )

إسلام حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صل الله عليه وسلم :

عندما أخذ المشركون في إيذاء رسول الله صل الله عليه وسلم ـ وأصحابه , وكثيرا ما كانت تدور بين المسلمين والمشركين مجادلات , أي خصومة شديدة " ومعارك وحدث أن دارت معركة عنيفة بين الصحابة والمشركين , في شعب من شعاب مكة , وقد وصل الأمر إلى أن تعدي أبو جهل عدو الله على رسول الله صل الله عليه وسلم ـ
وقد بلغ ذلك حمزة عم النبي صل الله عليه وسلم ـ عند عودته من صيد , فذهب إلى أبي جهل ... ووجده جالسا في وسط قومه . فضربه بقوة , فشج رأسه , وقال أتؤذي محمداً وأنا على دينه ) فقال القومُ : ( ما نراك إلا قد صبأت ) أي خرجت من دين آبائك , فقال لهم ما يمنعني وقد استبان لي منه , وأنا أشهد أنه رسول الله , وان الذي يقوله هو الحق , والله لا أتركه أبدا ) فذهب للرسول صل الله عليه وسلم وقال : اشهد انك الصادق فاظهر يا ابن أخي بدينك واستمر معه في العبادة في دار الأرقم .
انظر عن سيرة حمزة بن عبد المطلب في باب شخصيات إسلامية من هذا المنتدى . ( 66)

إسلام عمر بن الخطاب :

أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ بعد حمزة بثلاثة أيام , وذلك حين عابه قومه بإسلام أخته فاطمة بنت الخطاب فذهب إليها في دارها ولطمها على وجهها , فسال الدم منها فقالت له : ( أتضربني يا عدو الله على أن أوحد الله , لقد أسلمت رغم أنفك يا بن الخطاب فما كنت فاعل ... ؛)
أخذته الشفقة عليها وجلس معها وجال ببصره " أي بطرف بصره في المكان" , فوجد صحيفة , فأخذها بعد أن تطهر فقرأ ( طه , ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي ) سورة طه ثم أسلم وتوجه إلى رسول الله صل الله عليه وسلم ـ وأعلن إسلامه في بيت الأرقم بن أبي الرقم رضي الله عنه , ففرح رسول الله صل الله عليه وسلم ـ وحزنت قريش كثيراً وأصابتهم كآبة لم تُصبهم مثلها من قبل . انظر عن سيرة عمر بن الخطاب في باب شخصيات إسلامية من هذا المنتدى . ( 67)

ـ يـــــتــبـــــــــــع ـ بإذن الله تعالى