من فقه السيرة النبوية فى ( حياة الرسول صل الله عليه وسلم ) للشيخ سامى محمود "

ومما يذكر أن قريشا قسمت جوانب البيت أربعة , وجعلوا لكل قبيلة جانبا تقوم بهدمه وبنائه , ولما ارتفع البناء إلى مقدار قامة رجل , وأرادوا وضع الحجر الأسود المقدس فى الجانب الشرقى , اشتد الخلاف بينهم , فأرادت كل قبيلة أن تنفرد بوضع الحج الأسود فى مكانه , ليكون لها الشرف والفخار , وكادت الحرب الأهلية تنشب
بينهم فى أرض الحرم فلما رأى " أبو أمية المغيرة المخزومى " ما صار إليه أمر قريش من الخلاف " وكان أبو أمية هذا أكبرهم سنا , وكان فيهم شريفا مطاعا "
اقترح عليهم أن يحكموا فيما حدث بينهم أول داخل من باب " الصفا " وأراد الله تعالى أن يكون الداخل " محمداً " صل الله عليه وسلم _ فلما رأوه هتفوا قائلين :
( هذا الأمين قد ارتضيناه حكما ) (26)

وقصوا عليه قصتهم واستمع لهم , ورأى العداوة تبدوا فى عيونهم ففكر قليلا ثم قال : ( هلم لى ثوبا) أى هاتوا لى ثوبا , فلما أتوا به
أخذ محمد صل الله عليه وسلم _ الحجر فوضعه فيه بيده الشريفة , ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ) فحملوه جميعا إلى ما يحاذى الحجر الأسود من البناء , وحينئذ أخذه محمد صل الله عليه وسلم _ من الثوب ووضعه فى موضعه , وبذلك انحسم الخلاف وانقض الشر , وأتممت قريش بناء الكعبة , وكانت سن محمد صل الله عليه وسلم _ فى ذلك الوقت خمسا وثلاثين سنة ويدل هذا الحل على عقله الراجح , ورأيه السديد , وسمو نفسه , ومكانته وعلو منزلته التى بلغها فى قومه . ( 27)

صفات الرسول صل الله عليه وسلم _ قبل بعثته .

لقد كان من عناية الله وفضله التى وافقت, نبيه محمد صل الله عليه وسلم _ قبل بعثته
أن وجهه ربه سبحانه وتعالى وجهة الخير , فى كل ما يقول ويفعل , فكان بذلك مميزا فى وسط أهله وعشيرته وما كانوا عليه من ضلال سواء فى العقيدة والأخلاق
التى كانت تملأ مجتمع أهل مكة .
وبذلك شب محمد صل الله عليه وسلم _ يحمل من مقومات الشخصية القوية , فقد اشتهر بحسن السيرة فى قومه , فكان أحسنهم خلقا , وأصدقهم حديثا , وأفضلهم مروءة , وأكرمهم جواراً واتباعا للحكمة فى معاملة الناس , ويحسن الإصغاء إلى من يحدثه ولا يلوى وجهه عنه . " ( 28)

كما اشتهر بالزهد , والتواضع , والعفة , والجود , والشجاعة , والحياء والذكاء , وكان قليل الكلام , كثير الإنصات , ميالا للجد من القول , وإن كان لا يأبى أن يشارك فى المزاح والمفاكهة , وإذا مزح لايقول إلا حقا , وكان إذا غضب يكظم غيظه , ولايريد أن يظهره لما طُيع عليه من سعة الصدر , والوفاء للناس وكان عطوفا على من حوله ومعينا للضعفاء , وكان كثير التفكير والتأمل فى الكون , ولذلك انصرف عن التفكير فى الشهوات الدنيا للإنسان .
وقد حفظه الله تعالى وصانه منذ صغره وطفولته , من جميع أعمال الجاهلية فلم يسجد لصنم قط , وبُغضت إليه الأوثان بُغضا شديداً , فلم يحضر لها احتفالا أو عيداً
مما كان بنو قومه يقومون به , كما كان لايأكل ما ذبح على النصب ( الأصنام )
مع أن قومه كانوا يأكلونه كما حرم على نفسه شرب الخمر . " ( 29)

وكان معروفا بين الناس بالأمانة حتى سموه ( محمد الأمين ) صل الله عليه وسلم _ وهذا ما وجدته السيدة خديجة رضى الله عنها _ عندما اختارته ليتاجر لها فى مالها , فكان أمينا على مالها , صادقا فى معاملتها , وربحت تجارتُها , وعندما سافر فى التجارة فى مالها , وكان معه غلامها ميسرة , وقد شاهد الكثير من الآيات أثناء الرحلة , فقد رأى الغمامة تظله , صل الله عليه وسلم _ ونزول رسول الله صل الله عليه وسلم – فى ظل شجرة قريبا من صومعة راهب " وهو مكان يعبد الله فيها " فقال : الراهب لميسرة مانزل تحت هذه الشجرة إلا نبى , ولما عاد ميسرةُ أخذ يخبر بما رأى وسمع وشاهد من آيات الله وأفضاله لهذا النبى المنتظرصل الله عليه وسلم _ للسيدة خديجة رضى الله عنها _ وهذه الصفات كلها مجتمعة فيه , كانت لها أثر عميق فى كل من خالطه أو اتصل به , فقد كسب ثقة جميع من يعرفه , ومن رآه هابه , ومن خالطه أحبه . " (30)

اشتراكه فى حرب الفجار وحلف الفضول :

اشترك صل الله عليه وسلم _ فى حرب الفجار التى امتدت ثلاث سنوات , بين قيس وقريش , واسْتُحِلْتْ فيها حرمات الكعبة , فكان يجمع فيها السهام من مساقط العدو , ويعطيها إلى أعمامه ثم اشترك بعد ذلك فى إلقائها على الأعداء .
أما حلف الفضول : فيقول فيه , رسول الله صل الله عليه وسلم _ " ما أحب أن لى بحلف حضرته فى دار بن جُدْعَان حُمْرَ النعم " وهى الإبل " ولو دعيت به لأجبت " وهذا الحلف الذى تعاهدت فيه قريش على نصرة المظلوم حتى يؤدى حفه .
وبذلك اكتسب الخبرة , والتجربة وبرزت فيه الرجولة الحقة , والشجاعة والمشاركة الوجدانية لأهله وعشيرته , وحبه للتعبد والتأمل والتطلع إلى الله وحده , وأخذت حياة الرسول صل الله عليه وسلم _ تتغير شيئا فشيئا وأخذ يتجه بقلبه وحسه وروحه إلى الله لايفكر فى شئ إلا ويغلب على تفكيره , وحسه حب الذات العلية حتى امتلأ قلبه بنور الإيمان وصنعه الله على عينه وأعده لرسالته ." ( 31)

الإعداد الروحى والزاد المعنوى فى غار حراء ونزول الوحى عليه :
صل الله عليه وسلم _

كان محمد صل الله عليه وسلم _ كلما تقدمت به السن , قوى فيه حب العزلة , والإنقطاع إلى الله تعالى والتعبد بمناجاته , فكان يهجر مكة كل عام ليقضى شهر رمضان فى غار حراء معتكفا زاهدا فى الدنيا , شغوفا بحب ربه سبحانه وتعالى
حيث السكون الشامل والهدوء والبعد عن ضجة الناس وضوضاء الحياة .
فإذا انقضى شهر رمضان , عاد إلى بيته , وبه من أثر التفكير ما يجعل زوجه خديجة تسأله عن حاله , لتطمئن أنه بخير وعافية .
وكان إذا مضى العام , وجاء شهر رمضان , ذهب إلى غار حراء , وعاد إليه تفكيره
وتأملاته فى الكون والحياة . ( 32)

وفى ليلة من الليالى , وحينما كان معتكفا كعادته فى غار حراء , جاءه الحق وهو الوحى , وكان ذلك فى يوم الإثنين 17_ من رمضان فبراير أو يوليو سنة 610 م _
وكما جاء فى قصة الوحى التى جاءت عن السيدة عائشة رضى الله تعالى عنها : كما فى صحيح البخارى عنه صل الله عليه وسلم _ " فجاءه الملك وهو جبريل , فقال " اقرأ" قال : " ما أنا بقارئ " قال : " فأخذنى فغطنى , حتى بلغ منى الجهد , ثم أرسلنى فقال : اقرأ فقلت ما أنا بقارئ " أى لاحفظ شيئا أقرؤه" فأخذنى فغطنى" ومعنى غطانى أى ضمنى وعصرنى حتى حبس نفسى " الثانية , حتى بلغ منى الجهد " والحكمة من ضمه إلى صدره ليصرفه عن النظر إلى الدنيا ويقبل إلى ما يلقى عليه إقبالا تاما . ( 33)

ثم أرسلنى فقال : اقرأ فقلت ما أنا بقارئ , فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى فقال :" اقرأ باسم ربك الذى خلق , خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " سورة العلق الآية 1_ 5 _ . فرجع رسول الله صل الله عليه وسلم _ يرجف , " أى يخفق ويضطرب" , فؤاده , فدخل على زوجه خديجة رضى الله عنها فقال : زملونى زملونى , " أى غطونى لتسكن رعدتى " , فزملوه حتى ذهب عنه الروع , "اى الخوف والفزع " فقال لخديجة رضى الله عنها _ وأخبرها الخبر _ " لقد خشيت على نفسى " فطمئنته وخففت من روعه . " (34)

موقف أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها _ من نزول الوحى .

لما رجع رسول الله صل الله عليه وسلم _ إلى بيته بعد أن نزل عليه الوحى , وهو خائف مرتعد وأخبر زوجه خديجة الخبر , وقال لها " لقد خشيت على نفسى "
قالت كلا , " أى لا تقل هذا الكلام فإنه لاخوف عليك " والله ما يخزيك الله أبداً " يعنى ما يفضحك " إنك لتصل الرحم " يعنى القرابة " , وتحمل الكل ," يعنى الثقل "
وتكسب المعدوم , " أى تعطى المحتاج " وتقرى الضيف , " القِرى بكسر القاف وهو الطعام وكل ما يكرم به الضيف " وتعين على نوائب الحق " ما يكون من نوازل , ثم ذهبت , ومعها الرسول صل الله عليه وسلم _ حتى أتت به ابن عمها " ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى " وكان ورقة عربيا أصيلا من ذروة قريش
وأحد الذين تركوا عبادة الأصنام فى الجاهلية , وطلب الدين وقرأ الكتب , وامتنع عن أكل ذبائح الأوثان , وكان معروفا بالعقل الناضج , والمعرفة الواسعة والإخلاص ,
وكان فى فترة الوحى شيخا كبيرا قد عمى ," ( 35)

وقد مر بتجارب كثيرة فى الدين والدنيا
وصار لايرجوا إلا حسن الخاتمة , والعمل فى سبيل الله ما استطاع , ومن أجل هذا كله ذهبت إليه خديجة رضى الله عنها _ بالرسول صل الله عليه وسلم _
وقالت له :" يا ابن عم , اسمع من ابن أخيك " فقال له : ورقة : " ياابن أخى ماذا ترى , " أى ما حصل لك " فأخبره رسول الله صل الله عليه وسلم _ خبر ما رأى , فقال له ورقة : " هذا الناموس " أى صاحب السر وهو جبريل عليه السلام " الذى أنزله الله تعالى على موسى , " ياليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك " فقال : الرسول صل الله عليه وسلم " أو مخرجى هم " هل يعادوننى ويخرجونى " قال : " نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى , وإن يدركنى يومك أنصرنك نصراً مؤزرا , وقد توفى ورقة بعد زمن قليل من بعثة الرسول صل الله عليه وسلم –
وقد أسلم قبل أن يموت . " ( 36)

موقف السيدة خديجة رضى الله عنها وما يحمله من دلالة نادرة :

إن المتتبع لما حدث من السيدة خديجة رضى الله عنها _ بينها وبين رسول الله صل الله عليه وسلم _ حينما عاد إليها خائفا فزعا مرتعدا , بسبب نزول الوحى عليه , ومفاجاة جبريل له فى غار حراء , أنها طمنته وأراحت نفسه بعد تعب , وذكرته بما جاءه من فضائل وكريم الصفات , وأكدت له أنه من يتصف بهذه الصفات الحميدة والمناقب الرفيعة , لايخذله الله أبدا بل إنه يكون موضعا لإحسانه وإعزازه
وإكرامه .
ومما لا شك فيه أن هذا الموقف وغير من السيدة خديجة رضى الله عنها _ من مواقف البطولة النادرة التى لم يحدث مثلها قط لإمراة فى الأولين , ولن يحدث مثلها فى الآخرين . " ( 37)

إن ما حدث من السيدة خديجة رضى الله عنها _ مما يدل على إخلاصها الشديد لزوجها , فقد وقفت إلى جواره فى وقت المحنة , تشد من أزره وتعيد إليه السكينة والأمن والطمأنية , وهذا مما يدل على عقلها الراجح , فلم تجزع ولم تفزع كبقية النساء حين يرين أن أزواجهن قد أصابهم الخوف , أو مسهم مكروه , بل ثبتت , ولم تبد له أى شئ من خوف أوشك , بل توقعت أن ما يكون قد حدث لزوجها بشير خير , وفاتحة لمستقبل سعيد , وهذا مما يدل على أن الإيمان الصادق بالله يجعل الإنسان فى كنف الله تعالى ورعايته , وأنه سبحانه وتعالى لن يخذل أولياءه , وأنه يتولى الصالحين , ونجد منها كذلك الرأى السديد والإرادة والعزيمة القوية , ويتمثل ذلك فى ابن عمها ورقة , فقد وجدت فيه الرجل المجرب ذا العقل الراجح الذى يمكن الإطمئنان إليه , فى معرفة ما حدث لزوجها محمد صل الله عليه وسلم _ فى غار حراء , فقد بادرت بتخفيف ما أصابه , ومداواة آلامه , لمعرفة مانزل به عند من تثق به وهو ابن عمها ورقة بن نوفل ." ( 38)

عودة الوحى :

عندما انقطع نزول الوحى على , رسول الله صل الله عليه وسلم _وذلك لمدة أربعين يوما بعد ما نزل فى المرة الإولى فى غار حراء , وذلك ليحصل له الشوق ويذهب عنه ما وجد من الرعب , وكان عليه الصلاة والسلام يذهب إلى غار حراء رجاء أن يرى مثل ما رأى , ولما طالت عليه المدة ظهر عليه الحزن الشديد , فكان يغدوا إلى رءوس الجبال كى يُلقى ما بنفسه من حزن وأسف وكان يسمع جبريل يقول له : يا محمد صل اله عليه وسلم :إنك لرسول الله حقا فيسكن جأشه , ويُعاود الرسول صل الله عليه وسلم الذهاب , إلى غار حراء مدة وفى قلبه شوق لحديث جبريل , (39)

, وذات يوم سمع صوتا من السماء , فإذا به جبريل عليه السلام للمرة الثانية كما جاء فى هذا الحديث الذى رواه البخارى ومسلم عن جابر بن عبد الله الأنصارى رضى الله تعالى عنهما _ قال : سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم _
يحدث عن عودة الوحى فقال فى حديثه :" بينما أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء , فرفعت رأسى , فإذا الملك الذى جاءنى بحراء , جالس على كرسى بين السماء والأرض , فرعبت منه حتى هويت على الأرض , فرجعت وقلت زملونى , زملونى
, زملونى , فأنزال الله عز وجل :قوله تعالى :" يا أيها المدثر قم فأنذر , وربك فكبر
وثيابك فطهر والرجز فاهجر " سورة المدثر فحمى الوحى وتتابع , ولما نزل على الرسول صل الله عليه وسلم الوحي للمرة الثانية عرف أنه أمام عمل جديد , يستدعى اليقظة والجد في تبليغ الرسالة إلى الناس , ولذلك أخذ الرسول صل الله عليه وسلم يحدث الناس في الإسلام , ويعرض عليهم الأخذ به , وتنفيذ مايدعوا إليه  ( 40)  وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم _

الدعوة إلى الإسلام سراً :

المرحلة الأولى : الدعوة إلى الإسلام سراً .

عند هذه المرحلة عاود الرسول صل الله عليه وسلم ـ الذهاب إلى غار حراء مدة وفي قلبه شوق لحديث جبريل , وذات يوم سمع صوتاً من السماء , فرفه إليه بَصَرَه فإذا الملكُ الذي جاءه أولا بين السماء والأرض فرجع إلى داره وقال دثروني ؛ فنزل قول الله تعالى :" يا أيها المدثر , قم فأنذر , وربك فكبر , وثيابك فطهر , والرجز فاهجر , ولا تمنن تستكثر , ولربك فاصبر ." سورة المدثر , ومن ذلك الوقت وبدأ رسول الله صل الله عليه وسلم ـ يدعوا الناس إلى الإسلام سراً , حتى لا تتعرض الدعوة لاضطهاد قريش لها ولمحاربتها . (41)

لقد أخفي رسول الله صل الله عليه وسلم ـ أمره عن أهل مكة وأخذ يدعوا إلى عبادة الله سراً , وبدأ يعرض الإسلام على أقرب الناس إليه من آل بيته وأصدقائه الذين لا يشكون في أمانته وصدقه , واخذ ينشر نور الإسلام في بيئة انتشر فيها ظلاممُ الوثنية والشرك بالله .
وقد صدق صل الله عليه وسلم في دعوته فكان أول من أمن به وصدقه من النساء زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها , وآمن به من الصبيان على بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم رسول الله صل الله عليه وسلم ـ وكان يعيش معه في بيته , وفي كفالته ليُخفف العبء عن عمه أبي طالب , وأمن به مولاه زيد بن حارثة , ثم أم أيمن حاضنة الرسول صل الله عليه وسلم ـ في طفولته , وقد زوجها لمولاه زيد بن حارثة . ( 42)

المسلمون الأوائل :

ثم أمن به صديقه الحميم أبو بكر الصديق , وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكَعْبةِ فلما أسلم سماه الرسول صل الله عليه وسلم ـ عبد الله ـ ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام , وأدخل فيه أهل ثقته ومودته , وهم : عثمان بن عفان , وطلحة بن عبيد الله , وسعد بن أبي وقاص , والزبير بن العوام , وعبد الرحمن بن عوف , وأبو عبيدة بن الجراح , والأرقم بن أبي الأرقم , الذي جعل من داره محرابا ومكانا لنشر الدعوة , ومركزاً للدعوة سراً إلى الإسلام , وآمن به ورقة ابن نوفل ابن عم السيدة خديجة , وصفية بنت عبد المطلب , ثم دخل بعد ذلك الفقراء والبسطاء في الدين الإسلامي
(43 )

وقد قيل أن أول من أمن بالرسول صل الله عليه وسلم من الموالي بلال بن رباح الحبشي , وأم بركة الحبشية , كما دخل عبد الله بن مسعود , وأبو ذر الغفاري , وخالد بنُ أبي سعيد بن العاص , وصهيب الرومي " وكان من الموالي " وعمار بن ياسر وأمه سمية , وغير ذلك من هؤلاء ممن شرح الله تعالى صدورهم في الإسلام وهداهم إليه , وبذلك فشا الإسلام في مكة , وذاع أمره , ومع أن الدعوة إليه كانت تسير في استخفاء , حذراً من سطوة أعداء الدين , وقد كان رسول الله صل الله عليه وسلم ـ الأفراد فرداً فرداً وسميت بدعوة الأفراد وسُموا السابقين الأولين .( 44)

موقف قريش من الدعوة الإسلامية في أول الأمر :

وصلت أنباء الدعوة الإسلامية السرية إلى قريش , وتحدث الناس في مكة عن محمد صل الله عليه وسلم ـ ودعوته , فلم تهتم قريش بأمره , ولم يعبئوا بدعوته أول الأمر , وظنوا أن حديثه ودعوته , ليسا إلا حديثا من أحاديث الرهبان والحكماء الذين يتحدثون في الألوهية مثل ورقة بن نوفل وأمية بن الصلت , وقس بن ساعده وغيرهم ,وظنت قريش أن الناس سيعودون حتما , إلى دين آبائهم وأجددهم , وأن أصنامهم مثل : هُبل , واللات , والعزي , ومَناة , ستكون لها الغلبة في النهاية , رغم أن قريشا خشيت ذيوع خبر محمد ودعوته , وتوجست خيفة من انتشارها , وأخذت ترقب دعوته ومصيرها على مرور الأيام . هذا وقد استمرت الدعوة إلى الإسلام سراً ثلاث سنين , وكان المسلمون يجتمعون فيها في دار " الأرقم بن أبي الأرقم " لتدارس الإسلام وما ينزل من القرآن كلما نزل منه شئ على الرسول صل الله عليه وسلم ـ ( 45 )

المرحلة الثانية ـ الجهر بالدعوة :

بعد أن استمرت الدعوة سرية ثلاث سنين , أمر الله تعالى رسوله صل الله عليه وسلم ـ بأن يجهر بالدعوة ويُظهر ما خفي من أمره ونزل قول الله تعالى بالوحي :" وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين , فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون " سورة الشعراء الآية 214 ـ 216 ـ وقد بلغ عدد المسلمين نحو أربعين , ونزل قول الله تبارك وتعالى :" فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين " سورة الحجر آية 94 ـ فجهر بالدعوة ممتثلا أمر ربه , متحملا أذي قومه وأخذ كل السبل في نشر دعوته , وشملت دعوته عشيرته الأقربين , وهم بنو هاشم , وبنو عبد المطلب , وبنو نوفل , وبنو عبد شمس , ( أولاد عبد مناف ) وجمعهم وخطب فيهم قائلا (الحمد لله أحمده وأستعينه , وأومن به , وأتوكل عليه , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , ( 46 )

وجمع الرسول صل الله عليه وسلم عشيته على طعام ثم قال " إن الرائد لا يكذب أهله , والله ولو كذبت الناس جميعاً ماكذبتكم , ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم , والله الذي لا إله إلا هو , إني رسول الله إليكم خاصة , وإلى الناس عامة , والله لتموتن كما تنامون , ولتبعثن كما تستيقظون , ولتحاسبن بما تعملون , ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوء , وإنها لجنة أبداً , أو النار أبدا ) ولما سمعوه تكلموا معه كلاما لينا , ما عدا عمه أبا لهب , فقد خاطب قومه قائلا ( خذوا على يديه , قبل أن تجتمع عليه العرب ) أما عمه أبو طالب , فقد أعلن حمايته للرسول صل الله عليه وسلم ـ أمام كبار قومه طول حياته فقال ( والله لنمنعنه ما بقينا ) أي مدة حياتنا وبقائنا وما مصدرية ظرفية . ( 47 )

وبعد أن دعا الرسول صل الله عليه وسلم ـ عشيرته الأقربين , انتقل إلى أهل مكة جميعا , فصعد الصفا يوما ونادي قائلا : ( يا معشر قريش ) قالت قريش : محمد على الصفا يهتف , فأقبلوا واجتمعوا , وقالوا مالك يا محمد ؟ قال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا يسفح هذا الجبل , أكنتم مصدقي ؟ قالوا: نعم أنت عندنا غير متهم , وما جربنا عليك كذبا قط : قال ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد , يا بني عبد المطلب , يا بني عبد مناف , يا بني زهرة , ( وأخذ يُعدد قبائل قريش ( إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين , وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة , ولا من الآخرة نصيب , إلا أن تقولوا : لا إله إلا الله )فقال : أبو لهب عم النبي صل الله عليه وسلم ـ تبا لك " أي هلاكا وخسارة لك , ألهذا جمعتنا ؟ ) فنظر الرسول صل الله عليه وسلم ـ إلى عمه , وما لبث أن نزل الوحي بقوله تعالى ( تبت يدا أبي لهب وتب , ما أغني عنه ماله وما كسب , سيصلى ناراً ذات لهب ) تبت أي خسرت , ( 48 )

عداوة المشركين للرسول صل الله عليه وسلم وموقفهم من الدعوة :

ومن هؤلاء أبي لهب وأبي سفيان , وغيرهما من أصحاب المال والجاه واللهو بَدَؤا
يشعرون بخطر دعوة محمد عليهم وعلى مكانتهم , فقرروا أن يُحاربوا هذه الدعوة بكافة الوسائل .
ومن أمثلة تلك الوسائل في الحرب على الدعوة :

1ـ اتهام الرسول صل الله عليه وسلم ـ بتهم باطلة , فكانوا يتهمونه بالجنون , وينادونه بالمجنون وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " سورة ص الآية 4 ـ
2 ـ اتهامه بالسحر والكذب وسجل القرآن الكريم هذه التهمة بقوله تعالى :" وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " سورة الحجر الآية 6 ـ
3 ـ تشجيع شعراء المشركين على هجاء الرسول صل الله عليه وسلم ـ ومحاولة الحط من شأنه , وكان شعراء المسلمين يردون عليهم , بما يدفع التهم الباطلة عنه ويشرح مزايا الإسلام . ( 49 )

4ـ تأليف جماعة الاستهزاء بالإسلام ورجاله .
5 ـ إيذاء المشركين لرسول الله صل الله عليه وسلم ـ ومن الأمثلة على ذلك :
(ا) كان أبو لهب بن عبد المطلب ـ عم الرسول صل الله عليه وسلم ـ جار له , وكان أشد الناس عداوة له , وإيذاء , فكان يأتي بالقاذورات ويرمي بها على بابه , ولكن الرسول صل الله عليه وسلم ـ يصبر ولا يزيد على أن يقول له يا بني عبد مناف أي جوار هذا ) ؟
( ب) وكانت أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب ـ تُلقي بالشوك في طريق النبي صل الله عليه وسلم ـ بنفسها لشدة عداوتها للرسول صل الله عليه وسلم ـ مع أنها كانت من بيت العز والشرف . ( 50 )