من فقه السيرة النبوية فى ( حياة الرسول صل الله عليه وسلم ) للشيخ سامى محمود "

من فقه السيرة النبوية :

فى حياة الرسول صل الله عليه وسلم :

مقدمة :

عندما يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله , التى هى عهد الإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيته , واستحقاقه وحده بالعبادة والطاعة , ومن ثم كان و لابد من الإعتراف والتصديق برسوله محمد صل الله عليه وسلم , ومعنى تصديقك وقولك محمد رسول الله , هو تسليم له بالرسالة , وتسليم له بالصدق , وتبليغ الأمانة , والتزام بالعمل به بما جاء به من عند ربه سبحانه وتعالى , وبهذه الكلمة نطق آلاف الملايين , منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان , وستظل تنطق بها وتهتز لها  قلوب آلاف الملايين إلى يوم القيامة
تجلبهم إلى رسولهم عقيدة صافية , وتربطهم به صلة روحية ربانية , لأن الإعتقاد
بأن محمداً رسول الله جزء من العقيد الإسلامية كما بينا قال تعالى :" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " سورة التوبة الآية 128_ (1)

والمسلمون وهم يهتفون بهذه الكلمة إيمانا منهم بأنه
صل الله عليه وسلم _ إمامهم ومعلمهم فى الحياة , وأنه شفيعهم عند النجاة فى الآخرة , وقد عقدوا له فى قلوبهم حبا , وعلقوا عليه آمالا , فهو للدنيا عامة وللمسلمين خاصة كما قال عنه ربه :" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " سورة الأنبياء الآية 107_ وقوله سبحانه :" يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا , وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا " سورة 46_
والمسلم يؤمن بأن محمدا صل الله عليه وسلم _ خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبى بعده
ولا رسول بعده , وهو رسول إلى الناس جميعا فى كل مكان من أرض الله , وفى كل زمان إلى ان تقوم الساعة فهو الرسول الأعظم , والنبى الأكرم زمانا ومكانا قال تعالى :" ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما " سورة الأحزاب الآية 40_ (2)

وقوله تعالى :" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لايعلمون " سورة سبأ الآية 28_ ومن ثم فإن تذكر رسالة خير البشرية سيدنا محمد صل الله عليه وسلم الذى أمر الله بطاعته فقال :" وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب " سورة الحشر الآية 7_ وهذا يجعلك دائما فى رحاب الله تعالى , وبين يديه تستشعر عظمته وسلطانه , وترجوا رحمته , وتخاف عذابه , وبين يدى الرجاء والخوف توجد النفس المطمئنة التى اعتصمت بالإيمان فأطاعت الله عز وجل رجاء رحمته , واعتصمت بالإيمان فابتعدت عن المعاصى خوف من عقابه " ( 3)

الإسلام أنقذ العالم فى الماضى :

لقد أنقذ الإسلام العالم فى الماضى من الفساد والضلال , وذلك عندما جاء محمد صل الله عليه وسلم _ برسالته السمحة وعقيدته المنطقية , التى وضعها منظم هذا الكون , الحكيم الخبير قال تعالى :" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " سورة تبارك الآية 14_ وقال تعالى :" الا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " الآية 54_ سورة الأعراف لقد كان الناس قبل بعثته صل الله عليه وسلم _ يعيشون حياة السفه والضياع
والظلم الإجتماعى , والطغيان والخراب والدمار والوحشية , والشرك والجهل والرذيلة يسيطر كل هذا على سلوكهم وأعمالهم , ويدمر حياتهم فقد كان معظم أهل الأرض يعبدون الأحجار , ويعكفون على الأصنام , وكان منهم من يعبد الكواكب , ومن يقدس النار , وفيهم من يعبد الحيوان , ومن يقدس الإنسان إلى غير ذلك
وبذلك انحدرت أخلاقهم إلى الهاوية , فلا ترى منهم مكارم بارزة , ولا فضائل مسيطرة , إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا . ( 4)

لقد قضت الوثنية على الحضارات فى مصر واليونان , وفى الهند والصين , وفى فارس وروما , لقد أغارت هذه الوثنيات على الدين الصحيح , الذى جاءت به الأنبياء والرسل قبل بعثة النبى محمد صل الله عليه وسلم _ وخيم الظلام على حقائق الدين الناصعة , وغلب الجهل على الأفئدة والعقول فى غيبة أنوار التوحيد , وتلاشت تقاليد الجماعة , وأنظمة الحكم , وحل محلها الوحشية والبربرية , وساد فى الأرض الفتك والإغتيال والخراب والدمار , وفقد فيها الضعاف نعمة الأمن والسكينة .
ومن ثم كان الناس فى أشد الحاجة إلى من ينقذهم , من الضلال والجهل والشرك
فأدرك الله تعالى بحكمته ورحمته هذا العالم , وذلك حين أرسل فيهم رسولا من أنفسهم هو محمد صل الله عليه وسلم _ أرسله ربه بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه إلى الناس كافة ليقيم التوحيد الخالص , وليتتم مكارم الأخلاق , ويصلح العقائد الفاسدة , وليخرج الناس من الظلمات إلى النور. ( 5)

فالإسلام دين كامل واضح كل الوضوح سهل فى عقيدته وشريعته , وعباداته ومعاملاته , لم يترك صغيرة ولا كبيرة مما يصلح به حياة الإنسان إلا أحصاها , والإسلام صالح للتطبيق والتنفيذ فى كل زمان ومكان , صالح للحياة الإنسانية العلمية والعملية , والإجتماعية والإقتصادية والسياسية , وكما أنقذ الإسلام الناس فى الماضى لما أمنوا به الإيمان الصحيح , فكذلك لامنقذ لهم اليوم إلا فى العمل بهذا الدين , وتطبيقه التطبيق العملى الصحيح فى كل أوضاعنا وأنظماتنا وسائر حياتنا , ولو فهم العالم المتمدين وغير المتمدين الإسلام على حقيقته , لأسلم من فى الأرض جميعا , لكن للأسف يعاديه المرتزقة الأفاكون , و يشوهه أعداؤه من الظلمة والمجرمون , الذين يعيشون على حساب هذا العداء , فالعداء لهذا الدين وأهله هو وظيفتهم التى يكسبون منها رزقهم ومعيشتهم " قال تعالى :" وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " سورة الواقعة الآية 82_ ( 6)

سيدنا محمد صل الله عليه وسلم :

والنسب الشريف :


ولد سيدنا محمد صل الله عليه وسلم _ من أسرة طاهرة المعدن , شريفة النسب , جمعت خلاصة ما فى العرب من فضائل , وترفعت عما يشينها من عيوب , وقد كان منبت سيدنا محمد صل الله عليه وسلم _ فى أسرة لها شأنها فكان ذلك بعض ما أعد الله تعالى لرسالته من نجاح , وقد قال : صل الله عليه وسلم _ إن الله اصطفى ( أى اختار) من ولد ابراهيم اسماعيل , واصطفى من ولد اسماعيل بنى كنانة , واصطفى من بنى كنانة قريشا , واصطفى من قريش بنى هاشم , واصطفانى من بنى هاشم " رواه مسلم والترمذى

وعن نسبه من جهة أبيه :

هو صل الله عليه وسلم _ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصى بن حَكيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مُدرِكة بن الياس بن مُضر بن نزار بن مَعد بن عَدْنَان ويصل نسبه إلى سيدنا اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام " (7)

وأما نسبه من ناحية أمه :

أُمه هى آمنة بنت وهب بن مناف بن زهرة بن حكيم , وتلتقى أمه معه فى جده الخامس " حَكيم " وكان وهب سيد بنى زهرة سنا وشرفا ,
وإذا نظرنا إلى نسب الرسول صل الله عليه وسلم _ من جهة أبيه ومن جهة أمه فإننا نجدهم من أشرف بيوت مكة , واكرمها , وأحسنها خلقا وطيب أصل "

وكان قصى : " الجد الرابع للرسول صل الله عليه وسلم _ عظيم الشرف , كثير المال وفى منتصف القرن الميلادى صار شريف مكة وحاكمها , واجتمعت له الحجايه " وهى تول مفاتيح الكعبة" والسقاية , وهى سقى الماء , والرفادة , وهى اطعام الطعام للحجاج جميعا , والندوة , وهى تولى رياسة الإجتماع طول أيام العام فى الدار التى بناها وسماها دار الندوة , واللواء , هو راية الجيش عند الحرب , والقيادة , وهو امامة الجيش عند الحرب " (

وكان عبد المطب :" الجد الأول للرسول صل الله عليه وسلم _ من حكام قريش , ومن حكماء العرب , وكان حليما جواداً , واحسن قريش وجها وأمدهم جسما , وأبعد الناس عن جميع الصفات المذمومة التى تفسد الرجال , لم يره ملك إلا أكرمه , وقبل شفاعته , وكان سيد قريش حتى مات "

وأما عبد الله والد الرسول صل الله عليه وسلم _ فقد كان صورة من والده عبد المطلب ولو أمهله الزمن لتولى مناصب الشرف التى كانت بيد عبد المطلب , وقد اتخذ " عبد الله " شعاراً له التزمه طيلة حياته , وهو ما عبر عنه بقوله " أما الحرام فالممات دونه " أى إن الموت أقل قسوة من ارتكاب الحرام , ولأن يموت أهون عليه من أن يفعل فعلا محرما يبعده عن مكارم الأخلاق " ( 9)

زواج عبد الله من آمنه :

كان عبد الله , أصغر أبناء عبد المطلب , وله فى قلبه منزلة جليلة , وقد زوجه من آمنة بنت وهب , وكان " عبد الله " فى الرابعة والعشرين من عمره , وأقام فى بيت أهلها ثلاثة أيام جريا على عادة العرب حين يتم الزواج فى بيت العروس , فلما انتقلا معا إلى منازل بنى عبد المطلب لم تطل اقامته معها طويلا , فبعد أشهر من زواجه خرج يضرب فى مناكب الأرض ابتغاء الرزق , وذهب فى رحلة الصيف إلى الشام للتجارة وترك آمنة حاملا , وفى أثناء عودة " عبد الله " من غزة بالشام نزل عند أخواله بنى النجار بالمدينة ليستريح من مشقة السفر , ثم يتجه بعد ذلك مع القافلة
إلى مكة , لكنه مرض عند أخواله فتركه رفاقه , حتى إذا بلغوا مكة أخبروا أباه بمرضه , وحينما سمع عبد المطلب منهم ذلك أوفد " الحارث " أكبر بنيه إلى المدينة ليعود بأخيه بعد شفائه , وحينما بلغ " الحارث " المدينة علم أن عبد الله مات ودفن بها بعد شهر من مسيرة القافلة إلى مكة " وكان سنه حينئذ خمسا وعشرين سنة "
فجاء ينعى أخاه إلى أهله ويثير الأشجان والهموم فى قلب عبد المطلب وقلب آمنة
فقد كان عبد المطلب يعتز به , وكانت آمنة ترجو فى حياته هناءة وسعادة , ولكنها إرادة الله " ( 10)

مولده صل الله عليه وسلم :

لم تشعر السيدة آمنة رضى الله عنها _ بآلام المخاض عند ولادته كما تشعر النساء , ولما وضعته صل الله عليه وسلم _ رأته ساجدا رافعا إصبعه إلى السماء , كالمتضرع المبتهل إلى الله , وولد بدار جده عبد المطلب فى اليوم الثانى عشر من ربيع الأول من عام الفيل , ويوافق هذا اليوم 20 من أغسطس سنة 570 ميلادية
وعند مولده صل الله عليه وسلم _ حدثت معجزات منها ارتجاج إيوان كسرى , وسقوط أربعة عشرة شُرفة من شرفاته , وغيضت بُحيرة سَاوَة فى بلاد فارس وخمدت نارُ فارس التى كانوا يعبدونها , ولما تم وضعه بعثت آمنة إلى عبد المطلب
عند الكعبة تخبره أنه قد ولد له غلام , فسر الشيخ سروراً عظيما حين بلغه الخبر , واستقبل ميلاد حفيده باستبشار وفرح , وتذكر ابنه عبد الله , وقلبه مملوء بالغبطة والسرور لخلفه , " ( 11)

ولعله رأى فى قدومه عوضا عن ابنه الذى أدركته المنية فى شبابه
, فحول مشاعره عن الراحل الذاهب , إلى الوافد الجديد يكلؤه ويحرسه , بعنايته ويمده برعايته , وأسرع عبد المطلب إلى زوج إبنه , وأخذ طفلها بين يديه , وسار به حتى دخل الكعبة وسماه " محمداً " ولم يكن هذا الإسم معروفا عند العرب وغير متداول ولكن الله ألهمه إياه , لذلك سألوه : لم رغب عن أسماء آبائه ؟ فقال : ( أردت أن يحمده الله فى السماء , وأن يحمده الخلق فى الأرض ) وكأن هذه الإرادة كانت استشفافا للغيب , فليس هناك أحد من خلق الله من يستحق الشكر والثناء والحمد على ما أدى للبشرية من خير , كما يستحق ذلك النبى العربى محمد صل الله عليه وسلم _
وكانت قابلته الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف , وكانت حاضنته أم أيمن الحبشية جارية أبيه عبد الله , وكانت أول من أرضعته ثويبه جارية عمه أبى لهب بعد أن رضع من أمه . " (12)

رضاعه صل الله عليه وسلم :

لقد كان من عادة العرب أن يبعثوا أبنائهم خارج مكة فى الصحراء المنطلقة مكانا وجوا ليشبوا فى صحة تامة فى أجسامهم وعقولهم , وتنشئة الأولاد فى البادية تجعلهم يمرحون فى كنف الطبيعة ويستمتعون بجوها الطلق , وشعاعها المرس , وهذا أقرب تنمية الفطرة واطلاق الأفكار والعواطف , وكانوا يبعثونهم فى اليوم الثامن من مولدهم , ثم لايعودون إلى الحضر حتى يبلغوا الثامنة أو العاشرة من العمر .
وقد أقبلت ( آمنة رضى الله عنها ) على ابنها ( محمد ) تحنو عليه , وتنتظر المرضعات المقبلات من البادية يتلمسن تربية أولاد الأشراف , والأعرابيات اللاتى يقصدن مكة لهذه الغاية هن طالبات رزق ويسار , ولم يكن لمحمد أب ترجى عطاياه
, أومال يغرى بارضاعه وتربيته فلا عجب إذ زهدت فيه المراضع , وامتنعن عن أخذه وتطلعن إلى غيره , وما من امرأة عرض عليها الطفل ( محمد صل الله عليه وسلم ) إلا ورفضت اخذه لأنه يتيم ؛؛ (13)

السيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول صل الله عليه وسلم :

وكانت حليمة بنت أبى ذُؤُيْب من قبيلة بنى سعد احدى القادمات إلى مكة ابتغاء العودة
برضيع تستعين على العيش بارضاعه وحضانته , وقد أعرضت عن محمد أول الأمر , كما أعرض غيرها لأنه طفل يتيم ؛؛ وفى الوقت نفسه لم تجد حليمة السعدية من تعطيه طفلها , لأنها كانت على جانب من ضعف الحال صرف الأمهات عنها , فلما أرادت المرضعات العودة من مكة إلى البادية قالت حليمة لزوجها ( الحارث بن عبد العزى ) والله إنى لأكره أن أرجع مع صواحبى بدون أن آخذ رضيعا , والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم ولآخذنه ) وأجابها زوجها لا عليك أن تفعلى , عسى أن يجعل الله لنا فيه بركة ) وأخذت حليمة " محمداً " وانطلقت به إلى البادية مع قومها , وكانت البركة فى قدومه معها , سمنت غنمها , وزاد لبنها , وبارك الله لها فى كل ما عندها ," (14)

ومن الله عليها بخير مضاعف , درت الضروع بعد جفاف , ولان العيش وأخصب , وشعرت حليمة وزوجها بأن عودتهم من مكة كانت بالخير والبركة لا بالفقر واليتم , ولهذا زاد اعزازهم بالطفل وتعلقهم به , وتربى محمد فى بيتها
وخرج مع أخوته فى الرضاع إلى رعى الغنم , فى البادية وكان لهذا العمل أثره الكبير فى نفسه إذ جعل قلبه مُفعما بالرحمة ولين الجانب منذ طفولته , ولا غرابة فى أن يكون محمد فى براءته وطهارته , وفى طفولته الباسمة , ونضرته المتألقة هو سبب هذا الخير وتلك البركة , فإن تجارب الإنسانية منذ وجدت تؤيد أن هناك اشعاعات عند بعض الناس تضفى على المرافقين لهم بهجة ونشاطا وخيراً ."
(15)

فطامه :

لقد أقام ( محمد ) الرضيع ( صل الله عليه وسلم ) فى الصحراء سنتين ترضعه حليمة وتحضنه ابنتها ( الشيماء ) وقد وجد فى هواء الصحراء , وخشونة عيش البادية , ما أسرع به إلى النمو , وزاد فى وسامة خلقه وحسن تكوينه , فلما أتم سنتين
تم فصاله عن الرضاعة , ثم ذهبت به حليمة إلى مكة لتراه أمه ويراه جده , ثم عادت به إلى البادية , وهى أشد ما تكون حرصا عليه , وعلى العودة به .
وأقام الطفل بالصحراء إلى الخامسة من عمره , يمرح فى جو البادية الصحو وانطلق يتعلم من قبيلة بنى سعد لغة العرب الفصيحة , وكان لهذه السنوات الخمس أجمل الأثر فى نفسه , كما بقيت حليمة وبقى أهلها موضع محبته واكرامه طول حياته .
وبعد عودته إلى مكة : وقد عاد إلى أمه بمكة بعد هذه السنوات الخمس , فكفله جده عبد المطلب وأغدق عليه كل حبه ورعايته . " (16)

ذهابه إلى المدينة :

ولما عاد محمد _ صل الله عليه وسلم – إلى أمه وبعد أيام أخذته وسافرت به إلى المدينة ليرى فيها أخوال والده من بنى النجار , وزيارة قبر زوجها , وقد أخذت معها
" أم أيمن " وهى الجارية التى تركها أبوه ( عبد الله ) من بعده فلما وصلوا إليها رأى محمد البيت الذى مات فيه أبوه , والمكان الذى دفن به , فأحس لأول مرة معنى اليتم
فى نفسه ؛؛وبعد أن أقاموا بالمدينة شهراً , اعتزمت ( آمنة ) العودة , فركبت , وركب من معها بعيرهما اللذين حملاهما من مكة إلى المدينة . " (17)

موت أمه :

وبينما هم فى طريقهم إلى مكة مرضت ( آمنة ) بقرية ( الأبواء ) على بعد 23 ميلا من المدينة وماتت ودفنت بها , وعادت ( أم أيمن ) بالطفل محمد صل الله عليه وسلم _ منتحبا حزينا ؛؛ يشعر باليتم المضاعف لوفاة والده وهو جنين فى بطن أمه , ووفاة أمه وهو طفل فى السادسة من عمره وقد رأى بعينيه أمه تذهب وتترك جسمه الصغير يحمل هم اليتم كاملا ؛؛
وذهب إلى مكة , فزاد عطف جده عبد المطلب عليه , ومع ذلك بقيت ذكرى اليتم عميقة وأليمة فى نفسه ؛؛

موت جده عبد المطلب :

ولعل أثر هذه الذكرى كان يخفف فى نفس الصبى لو أن جده عبد المطلب عاش طويلا , لكنه مات فى الثمانين من عمره , ومحمد صل الله عليه وسلم _ فى الثامنة
, وحزن محمد صل الله عليه وسلم _ لموت جده حزنه لموت أمه , حتى كان دائم البكاء , وهو يتبع نعشه إلى مقره الأخير , وكان دائم الذكر له بعد ذلك . ( 18)

كفالة عمه أبى طالب :

أوصى عبد المطلب : قبل موته , بأن يقوم ابنه أبو طالب بكفالة محمد صل الله عليه وسلم _ من بعده , لأن أبا طالب كان أنبل اخوته وأكرمهم وأكثرهم مكانة واحتراما فى قريش , وعلى الرغم من أنه كان أفقرهم مالا وأكثرهم عيالا , أحب محمد صل الله عليه وسلم _ ابن أخيه كحب عبد المطلب له , فكان يقدمه على أبنائه , وكان يجد فيه النجابة والذكاء والبر وطيب النفس ما يزيده تعلقا به وحبا له ,واستمر أبو طالب فى رعاية محمد صل الله عليه وسلم _ ولم يسلمه إلى أعدائه وذلك بعد ما بعث نبيا ورسولا , ولم يخذله إلى أن توفى فى السنة العاشرة من البعثة . " (19)

الرحلة إلى الشام :

أراد أبو طالب أن يخرج فى تجارة إلى الشام , حين كان محمد صل الله عليه وسلم _ فى الثانية عشرة من عمره , وقد رغب فى أن يصاحب عمه فى هذه الرحلة , وذهب محمد صل الله عليه وسلم _ مع القافلة حتى بلغ ( بصرى ) فى جنوب الشام وقد التقى فى هذه الرحلة بالراهب ( بحيرى ) الذى تفرس فيه ( أى تأمل ) ورأى فيه علامات النبوة فى وجهه , وبين كتفيه , فأخذ يسأله عن أمور فى نومه ويقظته , وقد نصح الراهب ( بحيرى ) عمه أبا طالب أن يرجع به إلى بلده , خوفا عليه من اليهود إذا رأوا فيه أمارات النبوة , على ما جاء فى كتب النصارى وقال : إنه الذى بشر به موسى وعيسى عليهما السلام , وقال لعمه إنه سيكون له شأن عظيم , وقد استفاد محمد صل الله عليه وسلم _ من هذه الرحلة ما دعاه إلى التأمل والتفكير , على الرغم من صغر سنه , لما يتميز به من رجاحة العقل وقوة الملاحظة , وعظمة الروح , وذكاء القلب وقوة الذاكرة . " ( 20)

رعيه للغنم :

لم يستفد أبو طالب من رحلته هذه مالا كثيرا , فأقام بمكة يكفل فى حدود ما يملك من المال القليل فى النفقة على أولاده الكثيرين , وأقام محمد صل الله عليه وسلم _ مع عمه يقوم بما يقوم به أترابه ( نظراؤه) فى السن من أعمال, ومن هذه الأعمال رعى الغنم فكان , يرعى غنم أهله , وغنم أهل مكة بالأجر ليعيش من كسبه وكفاحه , وقد سبق له أن رعى الغنم حينما كان بالبادية مع اخوته من الرضاع , وكان يذكر رعيه اياها مغتبطا مسروراً , وكان يقول : صل الله عليه وسلم _ ( ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ) فقال : أصحابه : وأنت ؟ فقال : ( نعم , كنت أرعاها على على قراريط لأهل مكة )
أخرجه البخارى من حديث أبى هريرة رضى الله عنه _ ( والقراريط أجزاء من الدراهم والدنانير ) _ ( 21)

ولعل رعى الأنبياء للغنم تعويد لهم سياسة العامة , والرفق بالضعفاء , والسهر على حمايتهم , وقد أدى اشتغال محمد صل الله عليه وسلم _ برعى الغنم إلى المزيد
من التأمل والتفكير فى مظاهر الطبيعه وعظمة هذا الكون , وعظمة خالقه , وربما كان يدور فى ذهنه أنه , إذا كان نظام هذا القطيع من الغنم يوجب انتباه الراعى ويقظته وحتى لا يعدو الذئب , على شاة منها , وحتى لا تضل احدهما فى البادية
, فأى انتباه وأية قوة تحفظ على نظام هذا العالم كل أحكامه وأتقانه ؟ ؛ ( 22)

زواجه صل الله عليه وسلم :

تزوج رسول الله صل الله عليه وسلم _ من السيدة خديجة بنت خويلد رضى الله عنه وذلك بعدما تقدمت له هى برغبتها فى زواجها منه , وقولها له " يابن العم ؛ إنى قد رغبت فيك , لقرابتك وسلطتك فى قومك , وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك " وقد عرفت ذلك عنه بما رأته منه حيث كان يتاجر لها فى مالها , وقد قبل عليه الصلاة والسلام _ وذلك بعد موافقة عمه , وقد دفع صداقه عمه أبو طالب وخطب خطبة شهدها حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صل الله عليه وسلم _ أبان فيها فضل الرسول حيث قال : " الحمد الله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل , وجعل لنا بيتا محجوجا وبلدا حراما , وجعلنا من الحكام على الناس , ثم إن محمدا بن أخى , من لايوزن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا وفضلا , وكرما وعقلا ومجدا ونبلا , وإن كان فى المال قُل , فإنما المال ظل زائل , وعارية مسترجعة وله فى خديجة بنت خويلد رغبة ," ( 23)

ولها فيه مثل ذلك وما أحببتم من الصادق فعلى , وكان المزوج لها عمها عمرو بن أسد , والمزوج له أبو طالب وكان الصداق عشر أوقية ونصف أوقية _ وكان حينئذ فى الخامسة والعشرين من عمره , وكانت خديجة رضى الله عنها قد قاربت الأربعين من عمرها وقد سبق لها أن تزوجت مرتين قبله , وظل هذا الزواج قائما حتى ماتت خديجة رضى الله عنه _ عن خمسة وستين عاما , كانت فيها محل الكرامة والإعزاز , وهنا تبدأ صفحة جديدة من حياة محمد صل الله عليه وسلم _
تبدأ حياة الزوجية الموفقة الهنيئة السعيدة من جانبه وجانب خديجة رضى الله عنها معا , وقد أنجب رسول الله صل الله عليه وسلم _ كل أولاده جميعا منها " ما عدا إبراهيم فمن مارية القبطية المصرية ." ( 24)

اشتراكه فى تجديد بناء الكعبة :

كان العرب فى الجاهلية يعظمون البيت الحرام , وقد أجمعوا على احترام الكعبة
ومن قبل بعثة الرسول صل الله عليه وسلم _ منذ السنوات القليلة , جرف مكة سيل شديد وانحدر من الجبال إلى البيت الحرام , وأوشكت الكعبة أن تنهار , وصارت قريش فى شغل شاغل لما أصاب الكعبة , فرأت أنه لابد من تجديد بنائها , حرصا على منزلتها ومكانتها عندهم .
ولقد اشترك فى هذا البناء سادة قريش ورجالها الكبار ,وأشرافها وأهل الصدارة فيها
ومن بينهم محمد صل الله عليه وسلم _ وأعمامه , وقد ترددوا قبل هدمها خشية أن يصيبهم أذى لقداستها ومنزلتها عند الله تعالى , ثم أقبلوا يهدمون , وينقلون الحجارة , وكان محمد صل الله عليه وسلم _ ينقل معهم , حتى انتهى الهدم إلى حجارة خضر فاتخذوها أساسا للبناء فوقه , ونقلت قريش أحجار الجرانيت الأزرق من الجبال المجاورة وبدأت فى البناء . " ( 25)