من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

ومن قبل فى يوم مؤتة جاهد أسامة رضى الله عنه _ تحت لواء أبيه زيد بن حارثة
وسنه دون الثامنة عشرة , فرأى بعينيه مصرع أبيه , فلم يهن ولم يتضعضع , وإنما ظل يقاتل تحت لواء من خلف والده , فى القيادة جعفر بن أبى طالب , وعبد الله بن رواحة , وخالد بن الوليد رضى الله عنهم جميعا .
وعاد أسامة من هذه الغزوة محتسبا آباه ومن معه من شهداء المسلمين عند الله
تاركا أجسادهم على تخوم الشام علامة بارزة لمنارات الإسلام , وفى السنة الحادية عشرة من الهجرة أمر الرسول الكريم صل الله عليه وسلم _ بتجهيز جيش لغزو الروم , وجعل فيه كبار الصحابة , رضوان الله عليهم _ كأبى بكر وعمر وسعد بن ابى وقاص وغيرهم من جلة الصحابة

, وأمر على الجيش أسامة بن زيد وهو لم يجاوز العشرين بعد , فكان بذلك أمير الكبراء , كما سيتبين لنا فى قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه _ وفيما كان الجيش يتجهز مرض الرسول صل الله عليه وسلم _ ولم اشتد عليه المرض توقف الجيش عن المسير
ثم ما لبث ان انتقل الرسول صل الله عليه وسلم _ إلى جوار ربه وتمت البيعة لأبى بكر وأمر بإنفاذ جيش أسامة بن زيد رضى الله عنه .
ولما انطلق الجيش شيعه خليفة رسول الله _ صل الله عليه وسلم _ ورضى الله عنه _
ماشيا وأسامة راكب , فقال أسامة : يا خليفة رسول الله : والله لتركبن أو لأنزلن , فقال أبو بكر : والله لا تنزلن والله لا أركب , وما على إلا أن أغبر قدمى فى سبيل الله ساعة .

ثم قال لأسامة , أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك , وأو صيك بإنفاذ ما أمرك به رسول الله صل الله عليه وسلم _ ثم مال عليه وقال إن رأيت أن تعيننى بعمر فأذن له بالبقاء معى فأذن أسامة لعمر بالبقاء .
ومضى أسامة بالجيش , وأنفذ المهمة المكلف بها ونزع هيبة الروم من قلوب المسلمين , ومهد الطريق أمامهم لفتح ديار الشام ومصر والشمال الإفريقى
كله حتى المحيط الأطلسى , ثم عاد مظفرا غانما حتى قيل , إنه ما رئى جيش أسلم وأغنم من جيش أسامة بن زيد .

ولقد ظل اسامة بن زيد موضع إجلال المسلمين واحترامهم وحبهم , وفاء لرسول الله صل الله عليه وسلم _ وتعظيما لشخصه, طوال حياته حت أن عمر رضى الله عنه
كان إذا لقيه قال : مرحبا بأميرى فإذا رأى أحد يعجب منه قال : لقد أمره على رسول الله صل الله عليه وسلم _ رحم الله تعالى هذه النفوس العالية , التى لم يشهد التاريخ لها مثيل فى كل ما قاموا به من أعمال واتصفوا من خصال كريمة , وهيئ الله لنا من يحذو حذوهم ويمشى على طريقهم ليتحقق لأمتنا العزة والمنعة والنصر المأمول على أعداء الله ولتكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى "
وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

نور الحق لايغيب ضياؤه ولايخفى بريقه

مع الفارس البطل والصحابى الجليل " عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق "
" رضى الله تعالى عنهما "

عندما يصل الإنسان إلى درجة الإحسان , ويستحضر عظمة الله ومعيته فى أقواله
وأفعاله وسائر أحواله , تتصف نفسه بالإباء , والخلق الفاضل , وأصالة الجوهر
ومن كان هذا حاله أصبح مشعل خير , وسبيل هداية للحق والصواب , وإن لم تره عينك , وهذه النماذج الخيرة تمثلت عظمة الإسلام فى حياتها , حيث لم يفرض عليها
الإسلام من أجل جاه أو سلطان , أو رابطة نسب أو محبة صداقة , ولأن الإيمان الصادق واليقين الثابت , حين يدخل القلوب يملؤها نورا وإشراقا , ويسيطر على مجامع النفس ويجعلها تعيش بالحق وللحق وهذا هو ما تحدث عنه القرآن الكريم عندما بين لنا ربنا سبحانه وتعالى أن الإيمان يعرض ولا يفرض على أحد ومن ذلك قوله " لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى " سورة البقرة .

ومن هذه النماذج التى دخلت الإسلام وهى مختارة طائعة محبة لله ورسوله الصحابى
" عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنهما " لقد كان أبوه أول من أمن برسالة الإسلام من الرجال , ولم يتصف أحد فى السابقين ولا فى الآخرين فى إيمان الصديق رضى الله عنه , لأنه لو وزن إيمانه فى كفة وإيمان الأمة فى كفة لرجح إيمان أبى بكر رضى الله عنه _ وهو ثانى إثنين إذ هما فى الغار .

ولقد كان عبد الرحمن قبل إسلامه , صامدا كالصخر على دين قومه , ولم يتخلف عن موقف أو معركة خرجت فيها قريش تريد النيل والأذى من الرسول صل الله عليه وسلم _ ومن معه من المسلمين حتى كان يوم غزوة " أحد " , خرج عبد الرحمن يطلب المبارزة فهب أبو بكر مندفعا نحوه , لكن الرسول صل الله عليه وسلم
أمسك به , وأهل الأصل من هذا الطراز لايخفى عليهم , الحق وإن طال بهم الزمن
وتمضى الأيام وتاتى ساعة القدر , بشهادة ميلاد جديدة لهذا الشاب المناضل وذلكم الفتى الجرئ " عبد الرحمن بن أبى بكر " وإذا به يعلن إسلامه وتضيئ مصابيح الهدى نفسه , فتقضى على كل ما لوثته الجاهلية , من ضلال وزيف وخداع وتتحرر بذلك شخصيته , ويعلن التوحيد الخالص لله الواحد الأحد فى كل من حوله من أشخاص وكائنات

, وعلى جناح السرعة ينهض مسافرا , إلى رسول الله صل الله عليه وسلم _ ويراه الأب الحنون صاحب القلب الرقيق والعين البكائه , فيتألق وجه بشرا وفرحا عندما يراه يبايع رسول الله صل الله عليه وسلم _ ولقد كان عبد الرحمن
رجلا بالمعنى فى جاهليته فتتبدل , الحال كذلك عند إسلامه فيكون إسلامه إسلام الرجال وإيمان الأبطال فلا طمع يدفعه , ولا خوف يسوقه وإنما كان إيمانه عن يقين وإقتناع فتح الله تعالى عليه , به وشرح به صدره وهداه , وهذا هو المطلوب من كل من يريد أن يعتنق الحق والحقيقة ويعيش لها وبها .

وإذا بالبطل المناضل " عبد الرحمن " يريد أن يبدل الله تعالى له سيئاته حسنات
ويذهب هنا وهناك من أجل أن يعوض ما فاته , ويبذل كل مافى وسعه ليرضى الله تعالى ورسوله , ومن ثم لم يتخلف عن , غزوة من الغزوات ولم يقعد يوما عن الجهاد فى سبيل الله .
ولقد كان لثباته وثقته بربه أكبر الأثر , فى كسب المعركة فى موقعة " اليمامة "
فقد أجهز على حياة " محكم بن الطفيل " الذى كان العقل المدبر لمسيلمة الكذاب
كما كان يحمى بقوته , أهم مواطن الحصن الذى تحصن فيه جيش المرتدين

ولما سقط " محكم " بضربة " عبد الرحمن " وقد تشتت الذين من حوله انفتح فى الحصن مدخل واسع كبير , إستطاع المسلمون أن ينفذوا من خلاله , فكان بذلك واحد
من صانعى النصر فى يوم اليمامة , وقد استمر عبد الرحمن رضى الله عنه يشارك
فى بنيان الإسلام الشامخ , بفكره ونفسه ونضاله الأوفى حتى جاءه الآجل وكتب الله تعالى له بذلك السعادة فى الدنيا والآخرة , جزاء ما قدم لله ورسوله فرضى الله عن سيدنا عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق وسلام عليه فى الأولين والآخرين والصحابة
أجمعين " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا "

فى تاريخ الإسلام , نماذج مشرقة , وشخصيات طيبة , من سائر البشر فى مختلف نواحى المواقف الحياتية , التى تمثل حياة الناس , على مختلف العصور والأزمان , ولم يكن نقاء هذا المواقف إلا تعبيرا , صادقا عن الإيمان الصادق
الذى وقر فى القلوب , فزكى النفوس وأزال عنها الخبث , فبان حسنها وطهارتها
حتى رفعت إلى مصاف الملائكة , أو سعت الملائكة لتستمع آيات الله التى تتلى
من أفواه أصحابها .
ومن كان له السبق فى هذا الميدان , هو الصحابى الجليل والفارس الهمام " أسيد بن الحضير " الذى ما لبث أن استمع إلى كلام الله يتلوه , مبعوث رسول الله صل الله عليه وسلم _ إلى المدينة المنورة بعد بيعة العقبة الإولى " مصعب بن عمير "
حتى أقبل على الإيمان وشهد شهادة الحق ... وانضم بذلك إلى كتائب الإسلام .

ومن المعلوم أنه من فرسان العرب المرموقين , وسيد من سادات الأوس المعدودين وكان أسيد بن حضير معروفا , برجاحة عقله ونبالة أصله وحسن معالجته للأمور , ويتضح ذلك من موقفه يوم السقيفة إثر وفاة رسول الله صل الله عليه وسلم _ حيث أعلن فريق من الأنصار أحقيتهم بالخلافة , وطال الحوار إلا
أن موقف أسيد بن الحضير كان فعالا وحاسما , إذ وقف يخاطب قومه الأنصار قائلا :" تعلمون أن رسول الله صل الله عليه وسلم _ كان من المهاجرين فخليفته
إذن ينبغى أن يكون من المهاجرين , ولقد كنا أنصار رسول الله صل الله عليه وسلم _ وعلينا أن نكون أنصار خليفته , وكانت كلمته بردا وسلاما , وأنهت الموقف وجمعت الكلمة .

ارتبط أسيد بن الحصير بالقرآن الكريم وأولع به منذ أن سمعه , فى بدء اسلامه من مصعب بن عمير ثم رسول الله صل الله عليه وسلم _ بعد الهجرة ونتيجة لهذا الحب لكتاب الله كان يقبل عليه إقبال الظامئ , على المورد العذب فى اليوم شديد الحر , وجعل تلاوته شغله الشاغل , فكان لايرى إلا مجاهدا غازيا فى سبيل الله
أو عاكفا يتلوا كتاب الله , وكان رخيم الصوت , مبين النطق , مشرق الأداء
تطيب له قراءة القرآن الكريم أكثر ما تطيب , إذا سكن الليل , ونامت العيون , وصفت النفوس .

وكان الصحابة الكرام يترقبون قراءته , ويتسابقون إلى سماع تلاوته , فيا سعد من أتيح له أن يسمع القرآن الكريم منه رطبا طريا كما نزل على رسول الله صل الله عليه وسلم _ وقد استعذب أهل السماء تلاوته , كما استعذبها أهل الأرض ففى جوف ليلة من الليالى كان أسيد جالسا فى فضاء , وراء البيت وابنه " يحيى " نائم إلى جواره وفرسه التى أعدها للجهاد فى سبيل الله , مربوطة غير بعيدة عنه
وكان الليل هادئا ساكنا , فتاقت نفس أسيد بن الحضير , لأن يعطر هذه الأجواء
بطيوب القرآن الكريم ,

, فانطلق يتلوا الآيات الإولى من سورة البقرة , " ألم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين , الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون , والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " فإذا به يسمع فرسه وقد دارت دورة كادت تقطع بسببها رباطها فسكت , فسكنت الفرس وقرت , فخاف على ابنه يحيى , أن تطأه الفرس , فمضى ليوقظه
وهنا حانت من التفاتة إلى السماء , فرأى غمامة كالمظلة , لم تر العين أروع ولا أبهى منها قط وقد علق بها أمثال المصابيح , فملأت الآفاق ضياء وسناء , وهى تصعد إلى أعلى حتى غابت عن ناظريه ,

, فلما أصبح , مضى إلى رسول الله صل الله عليه وسلم _ وقص عليه خبر ما رأى , فقال له النبى صل الله عليه وسلم _
تلك الملائكة كانت تستمع لك يا أسيد ولو أنك مضيت فى قراءتك لرأها الناس , ولم تستتر منهم , وهكذا كان أسيد بن الحضير عابدا قانتا , حتى لقى ربه راضيا مرضيا فى خلافة عمر رضى الله عنه _ وسوف تتذكره الآجيال المتعاقبة تحت راية الإسلام , ويذكرون قول رسول الله صل الله عليه وسلم _ عنه نعم الرجل " أسيد بن الحضير " فاللهم رضوانك ومعفرتك وإحسانك عن أسيد بن الحضير وعن سائر الأصحاب من عباد الله المقربين , واللهم إجمعنا بهم فى مستقر رحمتك , وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الصحابى الجليل " أبو محجن الثقفى "

بطل معركة القادسية

ليس أروع من تاريخ الإسلام , وذلك عندما يتصفح الباحث سطوره , فإنها تكشف عن عظمة الإيمان فى تغيير النفوس , وصناعة الإنسان القوى كأداة وسبب من أسباب النصر والحياة , وهذا المعنى السامى فى إيجاد الشخصيات من هذا الطراز , نحن أشد ما نكون فى حاجة له فى هذا العصر , لنأخذ منه العبرة والدرس فقد بذل المسلمون الأوائل , من الصور الباهرة فى مجال الجهاد والنضال , والفداء فى مقاومة كل معتدى وغاصب , وكان النصر حليفهم فى كل معركة وميدان قال تعالى :" وكان حقا علينا نصر المؤمنين "

ومن هذه النماذج المشرفة , فى تاريخ الإسلام , بطل معركة القادسية " أبو محجن الثقفى " وفى أثناء المعركة , التى كان قائدها سعد بن أبى وقاص
رضى الله عنه _ وقد وضع أبو محجن الثقفى فى السجن , لإرتكابه بعض المخالفات , وقد دارت المعركة وهو فى قيده , فلما رأى ميمنة جيش المسلمين تضعف , استأذن أبو محجن القائم على حراسته , وأطلق نفسه من عقاله . وركب ( البلقاء ) فرس سعد الذى كان مريضا فى هذه الموقعة , يديرها وهو منبطح على بطنه , ويرمى بالرقاع إلى قواده من مكان عال , واندفع أبو محجن يزلزل كالصواعق , ويقاتل الأعداء بفدائية منقطعة النظير ,

, واندفع أبو محجن يزلزل كالصواعق , ويقاتل الأعداء بفدائية منقطعة النظير , ونظر سعد وعجب وقال : بالله ؛ الضرب ضرب أبو محجن , وهذه هى " البلقاء " ولولا أنه فى محبسه لظننت أنه هو , فلما انتهت المعركة , عاد أبو محجن متسللا حتى وضع نفسه فى القيد , فلما علم أنه هو أرسل إليه محييا ثم عفا عنه , بعد أن تعهد أبو محجن بعدم ارتكابه أى مخالفة أخرى , وهكذا صنع الإيمان فى قلوب الأبطال , فلم ينتظر أبو محجن وهو يرى جيش المسلمين , فيه ثغرة لابد وأن تسد , وهو فى سجنه فيستأذن حارسه , ويندفع ليس هربا من السجن , بل من أجل نصرة جيش المسامين ,

, وبعد أن أدى مهمته بنجاح , يرجع فى خفية ومن غير أن يشعر أحد ويضع نفسه فى القيد داخل السجن , وفى ذلك قمة الإنضباط العسكرى , وكان الجزاء من جنس العمل العفو الصفح من القائد سعد بن أبى وقاص رضى الله عن صحابة رسول الله صل الله عليه وسلم _الأطهار الأبرار ومن تبعهم بإحسان وجزى الله تعالى هذا البطل والثائر المجاهد " أبو محجن الثقفى " عن الإسلام وأهله خير الجزاء . وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تفألوا بالخير تجدوه :

إن للحق ضياء لايخبوا سناه , مهما حاول أهل الباطل إخفاءه , أو القضاء عليه فلن يستطيعوا إطفاء نوره الدال على وجوده قال تعال :" هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " سورة الصف الآية 9_
ومن هؤلاء الخيرين الذين سعوا فى معرفة الحق , والداعين إلى شيوعه بين ربوع العالمين , إنه زيد بن عمرو بن نفيل , فقد كان قبل البعثة المحمدية يسعى لمعرفة الحق والحقيقة , وهو يشاهد زاحمة الباطل التى عمت مكة أرجائها , حيث قريش تحتفل بعيد من أعيادها المختلفة , وقد رأى الرجال والنساء والولدان
وقد لبس كل منهم من جمل من الثياب , وعليهم بديع الحلل , ونظر إلى الأنعام (من الإبل والبقر والغنم ) يقودها الموسرون , بعد أن وضعوا عليها من حلل الزينة ليذبحوها بين أيدى الأوثان .

ووقف زيد يشهد هذا المنظر , وقد أسند ظهره إلى جدار الكعبة , وقال يا معشر قريش : الشاة التى خلقها الله تعالى : وهو الذى أنزل لها من السماء ماء فرويت
, وأنبتت لها العشب من الأرض فشبعت , ثم تذبحونها على غير اسمه , إن أراكم قوما تجهلون .
فقام إليه عمه الخطاب " والد عمر بن الخطاب " فلطمه وقال له تبا لك أى " هلاكا لك " ما زلنا نسمع منك هذا البذاء " يعنى السفيه من الكلام , ونحتمله حتى نفد صبرنا , ولم يقف الأمر عند هذا الموقف , بل أغرى به سفهاء قومه فأذوه ومنعوه من دخول مكة .

ولم يخمد ضياء الحق الذى انبعث فى نفس زيد , بسبب ما تعرض له من إيذاء قومه , بل كان ذلك دافعا له , لأن يبحث عن الحق الذى تطمئن له القلوب
التقية النقية , وأصحاب العقول الصفية الذكية , فى أطهر مراحل تدبرها وأبعدها عن الرين الذى قد يَرونُ عليها , فيشوه ما وضح , ويُسودُ ما أبيض , ولذلك ظل زيد يضرب فى الآفاق , بحثا عن ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم :
وبينما هو فى ترحاله وبحثه , إذ ذكر له راهب فى بلاد الشام عنده آثارة من علم من كتب الأوليين , فلما آتاه وقص عليه أمره , فأخبره أن يعود إلى بلده , فإن الله تعالى : سيبعث فى قومه من يجد له , دين إبراهيم الخليل عليه السلام _ وإذا بزيد يرجع مسرعا , إلى مكة المكرمة يحث الخطى التماسا لرؤية النبى صل الله عليه وسلم الموعود .

وقد بعث النبى صل الله عليه وسلم _ بالهدى ودين الحق , ولكن زيدا لم يدركه إذ خرجت عليه جماعة , من الأعراب فقتلته قبل أن يبلغ مكة , وتكتحل عيناه برؤية رسول الله صل الله عليه وسلم _ وآخر ما كان زيد يلفظ به فى أنفاسه الآخيرة , رفع بصره إلى السماء , وقال : اللهم إن كنت حرمتنى من هذا الخير , فلا تحرم منه ابنى سعيدا "
وشاءت إرادة الله تعالى أن تتحقق أمنية زيد , فيكون ابنه سعيد بن زيد , فى طليعة الذين أمنوا بالله وصدقوا رسالة نبيه صل الله عليه وسلم _ وكان سببا من أسباب إسلام عمر بن الخطاب , إذ كان هو زوج أخته فاطمة , وبذلك أعطى الله تعالى زيدا ما كان يتمناه أن يحققه لنفسه , أعطاه لولده ونعمت ذريته من بعده بهذا الخير العظيم " فالحمد الله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم