من حياة الملهم الواعى , والخليفة العادل ( عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه )

عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه

هو الخليفة العادل , والمجدد والمبدع , الذى جعله الله تعالى سندا للدعوة الإسلامية فجعلها مرهوبة الجانب بهيبته , وذلك بعد أن أعلن إسلامه

ونسبه :

هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ... بن عدى بن كعب يلتقى نسبه فى الجد السادس مع النبى صل الله عليه وسلم , وكان يكنى " أبا حفص " ولقبه الرسول صل الله عليه وسلم بعد اسلامه " بالفاروق " إذ خرج مع المسلمين فى أحد صفين , وأسد الله حمزة بن عبد المطلب فى الصف الآخر , فد خل المسلمون المسجد ولم يجرؤ أحد من سفهاء المشركين , أو حكامها أن ينطق بكلمة , أو يُلوحُ بإشارة
فلقبه الرسول صل الله عليه وسلم , بالفاروق لذلك لأنه فرق بين الحق والباطل

, وكانت أسرة عمر رضى الله عنه أسرة , واحدة من أسر قريش العشرة وكانت تعرف بِلَعقة الدماء , لما اشتهرت به من شجاعة , وقوة شكيمة , وحب للقتال , ولكنها قُهرت كثيرا من أبناء عمومتها , كثيرى العدد فأثر العدويون العدالة , وكراهية الظلم للغير واشتهروا بالمحكمين , وقد انتهى أمر السفارة التى أنشأها
" قصى " سيد حكماء العرب وشيخ أبطالها فى شتى المجالات إلى آل عمر الذى كان آخر سفير لقريش فى الجاهلية .
هذا نسبه من جهة أبيه , أما نسبه من جهة أمه , فهى مخزومية , والدها هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم , وبذلك يكون عمر رضى الله عنه قد حاز الشرف من نبعيه .

عن مولده :

ولد عمر بمكة بعد ميلاد النبى صل الله عليه وسلم بثلاثة عشر عاما

نشأته :

شب عمر بن الخطاب منذ نشأته الإولى , مبالا إلى الفتوة الأبية , وقد اتخذ من فطرته السليمة من الرياضة البدنية عونا على بلوغ مأربه , فهوى المصارعة
وحذق ركوب الخيل والفروسية , وأجاد الرماية فاشتد عوده , وقوى بنيانه , وتفتحت نظرته للحياة وظهرت مواهبه التى كسبها من تجاربه , التى كان يراها قوة للشباب وصقلا لمواهبه وكان يقول فى توجيه تربوى بناء " علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل ورووهم ما حسن من أشعار العرب " هذا إلى جانب كسبه الصبر وسعة الصدر , والتلطف بالضعيف , من رعاية الغنم لأبيه , فى صغره كما كسب التفنن فى المداولة , والخبرة بالطبائع البشرية , من اشتغاله بالتجارة ورحلاته معها
إلى الشام صيفا , وإلى اليمن شتاء , وقيامه بالسفارة .

عمر بين الجاهلية والإسلام

من الأمور العجيبة أن عمر رضى الله تعالى , عنه لم تتغير طباعه كثيرا فى حالتى جاهليته واسلامه إذ كان فى جاهليته شديدا , على المسلمين بعامة مبغضا كل ما يخالف عقيدته أيا كان كان _ كل البغض وكان يتعقب المسلمين ليلحق بهم الأذى والإضرار , وقد بلغ من عداوته لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام , أن فكر فى قتله , وما كان يدور بخلده قط قول الله تعالى لنبيه " والله يعصمك من الناس " سورة المائدة الآية 67 _

طبيعة عمر

لقد بلغ من طبيعة عمر بن الخطاب القاسية على مخالفى عقيدته , وشدته فى إيذائهم
وإلحاق الضرر بهم أكثر وضوحا , واشد وقوعا على المشركين بعد اسلامه , إذ صار اسلامه غصة فى حلوقهم , فقل الإيذاء للمسلمين وكاد يختفى فى جنبات مكة وطرقاتها .

أما عن إسلامه

إن اسلام عمر رضى الله تعالى عنه كان فتحا للمسلمين , وإن هجرته كانت نصرا للدين , وإن إمارته كانت رحمة بالآخرين , وبهذا ينطق أكثر من صحابى , والذى يبحث فى عوامل إسلام عمر رضى الله تعالى عنه , ليجد عديد من الأسباب التى تجمعت كخيوط النور فى مجمع قوى الإلتقاط , أدى تجمعها إلى قوة التأثير والتأثر ومن هذه الأسباب ما يلى :
1_ ما تميز به عمر من رقة قلبية عميقة , سترها عن العيون فظهرت صلابته
وقد وضحت فى ندمه ورقته لأم عبد الله بنت حَنْتَمَةَ" ومن كانت معها من المسلمات , وذلك حينما هم بالتعرض لهما عند هجرتهما إلى الحبشة , فعاد وخلى سبيلهما , وعندئذ طمعت أم عبد الله فى إسلامه , وقد صدق حدثها , بل وصدقت نظرتها الثاقبة
2_ ما سيطر على عقله وقلبه , وملك عليه وجدانه , وذلك عندما استمع إلى آيات الله
يتلوها رسول الله صل الله عليه وسلم فى صلاته بالكعبة , بين الركن الأسود والركن اليمانى ,

وكان عمر مختبئا بين ستائرها وأحجارها , وقد زاد من روعته ورهبته أنه كلما حدث له خاطر نطق القرآن بما فى نفسه , قلت هذا شاعر والله كما قالت قريش
, فقرأ الرسول صل الله عليه وسلم :" إنه لقول رسول كريم , وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون " قلت بل هو كاهن " فقال :" وما هو بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين " قال عمر فوق الإسلام فى قلبى : " والذى حمله على كثرة الذهاب إلى الكعبة للإستماع إلى قراءة الرسول صل الله عليه وسلم , ما سحره من بلاغة القرآن , وحسن بيانه ورقة حواشيه , حتى قال عمر , كنت عند بعض الآيات أبكى , وهذا مما يدل على رقة قلبه , وهذه هى تجمعات خيوط نور الهداية على قلب صقلته العزائم والقوة والبأس .

3_ سببان آخران _ هما رقته لأخته فاطمة وذلك حين ضربها , فشج رأسها ورأى الدم يسيل من جرحها ويغطى وجهها , وجرأتها فى ردها عليه , واعتزازها بإسلامها
وتمسكها بالصحيفة التى فى يدها , وعندما أراد أخذها ليقرأ ما فيها , أبت عليه إلا أن يتطهر لأنه نجس بشركه , وكأنما أرادت أن يتطهر قلبه من الرجس كما يتطهر جسده من الأدران ولما عاد بعد طهوره ناولته الصحيفة , فقرأ فيها سورة طه فأخذت آياتها بمجمع لبه وكان مما شد انتباهه , وكاد أن يوقف قلبه عن النبض حينما قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى , إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى , الرحمن على العرش استوى , له مافى السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى , وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى , الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ..."

وما كاد ينتهى من قراءة الآيات
حتى أخذ يضطرب فؤاده ,وتختلج أنفاسه مع كل نبرة ويَتطاولُ مع كل معنى , حتى أو شكت أن تخونه قدماه , ولا يقويان على حمله , ثم قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه وسأل عن مكان رسول الله صل الله عليه وسلم , بأسلوب ينم عن الخضوع والشوق والحنين , ويعبر عن الإستجابة واللهفة " فظهر خباب بن الأرت الذى كان يقرئ فاطمة وزوجها من القرآن الكريم من سورة طه , قبل قدوم عمر واختبأ حين قدومه , ثم قال لعمر : إنى لأرجوا أن يكون الله تعالى قد خصك بدعوة نبيه , فإنى سمعته أمس وهو يقول : اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم ابن هشام , أو بعمر بن الخطاب , فا لله الله يا عمر , وإنى لأرجوا أن تكونه , فزادت كلمات خباب قلب عمر
وجيبا وأنفاسه سرعة , ولكنه الثبات العمرى .

ذهب عمر إلى دار الأرقم بالصفا متوشحا سيفه , يضمر الخير ويريد الفلاح فأذت له الرسول صل الله عليه وسلم بالدخول , ثم أخذ بمجامع ردائه قائلا له :" ما جاء بك يا بن الخطاب فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة " فقال عمر وكاد يذوب هلعا , وهو الشجاع المقدام يا رسول الله جئت لأومن بالله ورسوله , وبما جاء من عند الله فكبر رسول الرحمة صل الله عليه وسلم تكبيرة عرف المسلمون منها إسلام عمر فكبروا تكبيرا ارتجت له جنبات مكة , ولهذا الإسلام القوى جعل التاريخ لعمر شأنا فى الأمم عبر العصور , وبعد أن أعلن إسلامه أراد أن يأتم بالرسول صل الله عليه وسلم فى صلاته علانية بين الركن الأسود , والركن اليمانى فى الكعبة

ولم يكن أحد يجرؤ على منعه من صلاته صل الله عليه وسلم , فاقتدى به عمر رضى الله عنه ثم أخذ المسلمون يتتابعون فى الظهور , والصلاة مع عمر رضى الله تعالى عنه
وهيبته لهم وشجاعته لهم حصن منيع , هذا ولم يبخل الإسلام على عمر بمنح المجد
والبطولة , فجعله أحد العشرة المبشرين بالجنة , وثانى الخلفاء الراشددين , وأحد أصهار رسول الله صل الله عليه وسلم , ومن كبار العلماء وزهادهم كما أنار بصيرته حتى صفت نفسه , فجاء بعض آيات القرآن الكريم مؤيدة لرأيه , ومثبتة لعزمه كما فى تحريم الخمر , وذلك حينما قال :" اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا , فنزل قول الله تعالى :" إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " سورة المائدة الآية 90 _ وكذلك آيات الحجاب ... إلخ

وعن صفاته

لقد اتصف عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه , بصفات محكمة واتصفت به فلا يكاد يذكر عمر إلا ويذكر العدل , ولا يكاد يذكر العدل إلا ويذكر عمر , وكذلك القوة والبأس , والغيرة على الشرف والهيبة والشجاعة وحسن القضاء , ولكن الذى يعرفه كثير من الناس , ما تميز به عمر من الرحمة ورقة الحساسه , وليس هناك تناقض بين شدة عمر ولينه , فقد صقل العدل قسوته وحكمت النخوة بأسه , فوضحت رحمته فى مواقف تقتضى الرحمة , كما مر الحديث عن إسلامه , وغمرت رحمته الأرامل واليتامى بعد إسلامه وبخاصة بعد قيامه بأعباء الخلافة .

ولايته وخلافته :

لقد اختار أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه , عمر للخلافة وذلك بعد مشورة كبار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم , فارتضوه عدلا وأخذها بحقها , وإن كان يراها بلاء ومحنة وهو أول من سمى بأمير المؤمنين .
وهذا هو عمر صاحب العدل والبأس , وذو الرحمة والغيرة على الشرف والإسلام
ذو الهيبة والفراسة , صاحب الإلهام وانجلاء البصيرة الذى يعتبر نبعا وكنزا لكل علم يتصل بالحياة الإنسانية , كعلم الأخلاق , وعلم الإجتماع وعلم السياسة , وعلم الإقتصاد وعلم النفس بكل أنواعه الحديثة , وكل صفة من هذه الصفات انطبقت بعمر واصطبغت به وأخذت منه , حتى كأنها لم تعد فى غيره , على الرغم من شيوع بعضها , وكثرة المتصلين بها , ولكنها العمريات المتفردة بعظمة الإسلام وخصائصه .

عمر مؤسس الدولة الحديثة ومجدد شبابها

لقد جدد الصديق أبو بكر رضى الله عنه شباب الإسلام , وذلك بانتصاره فى حرب الردة , وبما قضى به على خور النفوس , وتردد المرتابين , كما أمن الدولة من أعدائها وبتسيير البعوث , وتجديد الفتوح أما عمر رضى الله عنه فقد أسس دولة الإسلام على الإيمان الخالص , وجدد شبابها بما قدمه من جلائل الأعمال , ويبدوهذا واضحا فى سلوكه , منذ أسلم وجهر بالدعوة فعزها بهيبته وعنفوانه , ونصرها ببأسه وقوته ويوم أن بسط يده لأبى بكر فبايعه , وبايع المسلمون ببيعة التثبت والمؤازرة , ويوم أن أشار عليه بجمع القرآن , ويوم أن عمل على تصحيح اللغة العربية وجفظها من الخلط والفساد , وذلك بعد انتشار الفتوحات وامتزاج الأعاجم بالعرب فأمر بوضع ضوابط اللغة العربية , لأن فى حفظها سليمة حفظا لمصدرى التشريع , وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة , ثم ترا يتابع تجديد شباب الدولة , فيفتح تاريخا ويشعل حضارة , وينشئ حكومة واعية تقوم على تحمل المسئولية , رؤساء ومرءوسين :

فيرتب الدواوين التى منها : ديوان الخراج , ديوان المحاسبة
2_ ويقيم الإحصاء الذى لم تصل إليه أرقى الأمم فى عصرنا الحديث , فما من رجل أو إمرأة أو طفل , إلا عرف مكانه وعرفت حصته من بيت مال المسلمين , وما من مجاهد إلا وعرفت له رتبته :
3_ كما نظم أصول القضاء
4_ والإدارة التى أسندها إلى أربابها من ذوى الخبرة
5_ وأنشأ نظام بيت المال , ليحمى الدولة من العوز , ويقيمها على تحقيق مطالبها
6_ كما أنشأ البريد السريع , ليصل بين أطراف الدولة المترامية
7_ واتخذ لحماية الثغور أهل العزم والبأس من المرابطين , وعمل على عدم إطالة المدة التى تبعدهم عن أسرهم

8_ وقد وضع أصول التكافل الاجتماعى فى أرقى صورة , فكان يقوم برعاية أسر المجاهدين فى أثناء الحروب حتى يعود رب الأسرة أو عائلها .
ومما يثير العجب أن عمر أوجد مصنع السكة لضرب النقود , ودار الحبس للعقاب
, كما عنى بالإقتصاد كل العناية , فحث على التجارة وأوصى القراشين ألا يغلبهم
أحد عليها لأنها ثلث الملك , كما أبقى الأرض لأهلها فى البلاد المفتوحة منعا للصراع الذى ينشأ نتيجة التملك , وما يتبع ذلك من شغل للصحابة , وتفتيت للوحدة
وهجر الزراع لها , وما يترتب على هذا من ضرر موت الأرض والإنتاج , ولقد كانت الدولة التى يديرها عمر مترامية الأطراف , متعددة العناصر والأجناس والسلوكيات والموروثات , فضلا عن سرعة الزمن الذى تم فى الفتح , وما يمكن
أحد غير عمر فى ظروفه أنذاك , يستطيع أن يقوم بما قام به عمر , غير عمر الملهم
الذى استطاع أن يسوس الشعوب , المتنوعة الطباع المختلفة الميول والعادات , كأحسن ما يسوس الرجل الحكيم أسرته وأهل بيته .

عمر رضى الله عنه والشورى

وعن الحقيقة الثابتة والشهادة المخلصة , فإن عمر رضى الله تعالى عنه , قد وضع لكل شئ تقنينا , ودستورا يصلح لكل زمان ومكان , إذ أقام دعامة حكمه على الشورى الحقيقية , فجمع عنده نخبة الصحابة للمشاورة والإستفتاء والإنتفاع برأيهم
والإعتزاز بمعاونتهم وكان يتخذ من الحج جمعية موسمية للمراجعة والمحاسبة
لا تختلف فى شئ عن الجمعية العمومية لأية دولة , أو جمعية فى أروقة الأمم
إذ كان يناقش الولاة والوافدين معهم , أو القائمين للحج , فيأخذ عنهم , ويقدم إليهم الرأى والمشورة , فى غير قهر أو أمر إلا لضرورة ملزمة

, ولا شك أن المشاورة فى عسير لا يحسنه غير عمر وأمثاله , ولقد كان عمر الرجل الذى لا يجارى فيه
فكان لا يكتفى برأى أهل الخبرة , بل كان يلتمس الرأى عند الصغار والكبار , والمناقضين فى الشعور والتفكير , ونستخلص من هذا أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه , وهو الذى اتخذ من دستور الشورى فى الدولة الإسلامية نظاما
لم يسبق إليه , لأنه شورى الرأى الأصيل , وقد وضع دستور الحرب لقواده , فكان يرسم القواعد الأساسية لأسلوب الزحف , وأسلوب التريث , وأسلوب المداولة فى الرأى , ودراسة المنطقة التى يريدون فتحها , أما تنفيذ الخطة , فيعهد به إلى ذى خبرة وأمانة , فى حرية فائقة تامة , مع تحمل عمر تبعة وأعباء المتابعة والإمداد بما يلزم .

دستور الولاة :

وضع عمر لنفسه دستورا التزم به , قبل أن يلزم به ولاته , ويتخلص هذا الدستور فى عبارة واضحة " شدة فى غير عنف ولين فى غير ضعف ,وسهر على مصالح الرعية , والزهد فى تسلط الحكم , لأن الحكم محنة وابتلاء "
وكان يحث الناس على التصالح فيما بينهم , وعدم اللجوء إلى المحاكم مادام ذلك ممكنا , وكان يوصي الولاة برعاية المجاهدين وأسرهم , مادام الآباء في حرب أو رباط , وكان رضوان الله عليه يتبع مع الولاة مايلي :
1- يختار ولاته من أولي الفطنة والأمانة المشهود لهم بروائع المواقف , والقدرة على التصرف في الأمور .

2- حصر أموالهم قبل أن يوليهم ليحاسبهم بها على مازادوه بعد الولاية مهما كان سبب الزيادة , مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة , لأن الولاية تمييز بالواجب والكفاءة , وليست تمييزا بالوجاهة والاستعلاء .
3- كان يندب لهم وكلاء يجمعون الشكايات ويتولون التحقيق والمراجعة فيها.
4- إلزام الولاة والعمال بدخول بلادهم نهارا عند عودتهم من ولاياتهم , ليظهر ما حملوه في عودتهم .
5- إلزام الحضور في كل مواسم الحج ليحاسبهم , ويسمع ما يقولون , وما يقال فيهم , أو عنهم , وكانت له طريقة محكمة في محاسبة الولاة , كل الظروف والملابسات , من لوم أو عزل .............الخ.

فراسته وخبرته :

كان رضي الله عنه إذا شك في قريب لوال عند عودته من زيارته , يستعمل الحيلة للكشف عن الحقيقة , فينجلي له الموقف مع أبي سفيان , بعد عودته من زيارة ابنة معاوية والى الشام , إذا قال له : أعطنا شيئا مما حملته من خيرات الشام , فأنكر أبو سفيان إحضار شئ معه , فأخذ عمر منه خاتمه كعلامة أرسل بها خادمة إلى منزل أبي سفيان , وطلب إرسال ما أحضره معه من الشام , فجاء رسول عمر يحمل خرجين فيهما عشرة آلاف درهم , فطرحهما عمر في بيت المال .
ومن وصاياه لمن ولي الحكم , الزم خمس خصال يسلم لك دينك , وتأخذ منه بأفضل حظك:

1- إذا تقدم إليك الخصمان , فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة .
2- أدن الضعيف حتى يشتد قلبه , وسنبسط لسانة .
3- تعهد الغريب, فهو إن لم تتعهده ترك حقه, ورجع إلى أهله , وإنما ضيع حقه من لم يرفق به .
4- آس بين الناس في معاملتك ونظرك .
5- عليك بالصلح بين الناس مالم يستبين لك فصل القضاء .

عمر والفكر المبدع :

ليس بدعا أن يكون عمر بن الخطاب قوة فكرية , متحررة من قيود التعصب والأنانية , ومظاهر الحكم , وأن يكون مصلحا اجتماعيا كبيرا , ولا أدل على ذلك من الدساتير البناءة التى وضعها , كدستور الولاة , والقضاء , والحرب , وكإنشاء المدن وتخطيطها وطريقة تعميرها , ومن ذلك إنشاء مدينتى الكوفة والبصرة , حينما دعت الضرورة الملحة لإنشائهما , محافظة على صحة الجند , والسكن إليهما بعد الغزو , وكان البناء علة نمط صحي , لا يعرفه غير عمر المبدع.
ومن أعماله الفكرية أيضا , شق الترع وإقامة الجسور.....

عمر القاضي:

كان عمر في الجاهلية حكما من قبيلة محكمين , وكان سفيرا بين القبائل والأمراء والملوك كما كان في جوهره حكيم النزعة , سياسي الفطرة , بعيد النظرة في عواقب الأمور , قوى الفراسة , ومما لاشك فيه أن هذه الأمور من أسباب قدرته على القضاء وحذقته ( يعنى خبرته ) وتمكينه من وضع دستوره الشامل العادل .

دستوره في القضاء :

إنه دستور العدل في الجزاء , والفصل في الحقوق , والمساواة بين الجميع في الأحكام , ليخافه الشريف , ويأمنه الضعيف , كما صنع مع ابن عمرو بن العاص حينما شكاه ابن المصري لتعديه عليه بالضرب وكما صنع مع ابنه عبد الرحمن في إقامه الحد عليه , حين ارتكب ما يوجب إقامة الحد , وقد أدرك بثاقب فكره أن الولاة لابد أن يتفرغوا لمهام وظائفهم , ولوضع الأمور في نصابها , أنشا وظائف القضاء , ووضع له دستورا وإليك واحدة من رسائله لأحد قضاته يقول فيها :" إذا جاءك شئ في كتاب الله فاقض به , ولا يلفتك عنه الرجال , فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم , فاقض بها , فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله , ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلي الله عليه وسلم – فانظر ما أجمع عليه الناس فخذ به , فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله , ولم يكن فيه من سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم – ولم يتكلم فيه أحد قبل , فاختر أي الأمرين شئت , إتجتهد رأيك وتقدم فافعل , وإن شئت أن تتأخر فتأخر , ولا أرى التأخير إلا خيرا لك .

ونستخلص من هذه الرسالة الواعية : تحديد مصادر التشريع :

1_ الكتاب والسنة
2_ إجماع أهل الفقه بالشريعة
3_ فى القياس والنظر
4_ فى الإجتهاد وقد ثبت أخذ رأى عمر بفتاوى الإمام على كرم الله وجهه

وفاته رضى الله عنه

توفى رضى الله عنه من طعنة غادرة بيد أبى لؤلؤة المجوسى , حملها الحقد إلى جنب عمر رضى الله عنه وهو يسوى الصفوف لصلاة الصبح , انتهت حياة أعظم شخصية مفكرة واعية بين المسلمين , فكان عمر بحق عظيما قبل خلافته , وفى أثنائها , وسيخلد عظيما أبدا , أجل : يموت عمر انطفأ السراج الذى بدد ظلام الخوف من نفوس الفقراء , بل وأغمد السيف الذى روع الجبابرة الظالمين , وغشى الفكر الذى فكر جادا فى القضاء على الفقر أبد الدهور , وبموته لم يتحقق ما شاءه أن يكون
وهكذا وورى الثرى من اتسم بالعدل فى حياته , وبعد طعنه أفضت إلى موته حيث قال : " الحمد الله الذى لم يجعل قتلى بحاجتى عند الله , بسجدة له قط , ما كانت العرب لتقتلنى " ورحم الله تعالى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه , لقد كان عظيما فى مساعيه , وخصاله , عظيما فى كل أموره , "
وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا