من حقوق الانسان ( المساواة في الاسلام ) للشيخ سامى محمود "

الإسلام يدعو إلى الوحدة الإنسانية وذلك بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم وشاهده العام قوله تعالى:"يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير"سورة الحجرات الآية 13_

أولا:المساواة في القيمة الإنسانية المشتركة:

الإسلام هو النعمة الكبرى , والمنة العظمى التي أكرم الله بها الإنسانية , يقول الله جل ثناؤه" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" سورة المائدة وبالإسلام تتوحد القلوب وتتآلف النفوس وتنشرح الصدور وتطمئن القلوب وتتعارف الأمم والشعوب "وألف بين قلوبكم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أنفقت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم" سورة الأنفال . وقد بلغ النبي صل الله عليه وسلم ـ ذلك للأمة يوم العيد الأكبر بمنى في حجة الوداع وعلى جبل عرفة وهذه الوحدة الإنسانية تتضمن الدعوة إلى التآلف بالتعارف والى ترك التعادى بالتحالف والتضامن ... ( 1)

ومن هنا نعلم أن المساواة في الإسلام ميدانا فسيحا , نجده محدداً في المجتمع الاسلامى , أقامه القرآن الكريم والسنة المطهرة على أساس من الحق والعدل والإحسان , وأحاطه بفيض من البر والمواساة والفضل , قال تعالى "ولا تنسوا الفضل بينكم"سورة البقرة. دون أن تمس هذه المساواة بدرجات الفضل الذي خلقه الله في عباده .وفى هذه الآية الكريمة "يأيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" يهتف الله بالإنسانية وينادي لها على اختلاف أجناسها وألوانها ليردها إلى أصل واحد والى ميزان واحد هو الذي تقوم به وتدعو اليه الجماعة التي اختارها الله ليتحقق الاستقرار والسعادة المنشودة في ظلال شرع الله القويم.وفى هذه القاعدة جاء الخطاب مفتوحا للبشر أجمعين ليحصل بينهم التعارف والتآلف والتأخى والتحاب والاجتماع على الخير ذلك لأن الأصل الذي تفرعت عليه البشرية جمعاء هو آدم عليه السلام :" كلكم لآدم وآدم من تراب "والأصل الواحد ينتفي فيه التفاخر بالآباء والأجداد أو الاعتدال بالأحساب والأنساب التي أحل الإسلام التقوى والإيمان محلها ( 2)

وكما في حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن الله تعالى يقول يوم القيامة : "إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا جعلت أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان وأنا اليوم أرفع نسبى لأضع أنسابكم أين المتقون؟ " والذي تأسس على الإيمان والتقوى ينتفي عنه الغدر والقهر ويتجلى لنا ذلك من خلال موقفه صل الله عليه وسلم ـ مع أهل مكة عند قيام مجتمع الإسلام في مقولته المشهورة "ماذا ترون أنى فاعل بكم قالوا خيرا:أخ كريم وابن أخ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء"ومن هنا نظرة الإسلام إلى المجتمع الانسانى نظرة كلها حفاظ على كرامة الإنسان وحريته ويتجلى ذلك من خلال تحقيق المساواة والعدالة.
وصلاح الاجتماع الذي هو أساس لصلاح الحياة , يأتي من خلال دفع الفساد على أسس من التعاون والمودة والمحبة والرحمة لقوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز " سورة الحج (3)

أساس التفاضل التقوى والعمل :

وفى حديث بن عمر رضي الله تعالى عنه قال :قال رسول الله صل الله عليه وسلم : " إن الله تعالى ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ بن عمر "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " سورة البقرة إن الغاية في جعل الناس شعوبا وقبائل هي التعارف والوئام وليست التناحر والخصام فأما اختلاف الألسنة واللغات والألوان واختلاف المواهب والاستعدادات فتنوع محمود وهو لا يقتضى النزاع والشقاق بل يقتضى التعاون والنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " سورة المائدة ـ وعن المساواة في القيمة الإنسانية المشتركة قرر الإسلام أن الناس في هذه الناحية سواسية كأسنان المُشط وأنه لا تفاضل بينهم في هذا الصدد إلا على أساس كفايتهم وأعمالهم وما يقدمه كلا منهم لربه ونفسه ووطنه والمجتمع الانسانى " ( 4)

فقضي الإسلام بذلك على نظام الطوائف . وأساليب التفرقة بين الطبقات وقواعد المفاضلة بين الناس التي كان معيارها تبعا لاختلاف شعوبهم أو تفاوتهم في الاحساب والأنساب ليظل الناس إخوة متحابين متواضعين وفي ذلك يقول الرسول صل الله علية وسلم ـ في خطبه الوداع التي جعلها دستورا للمسلمين من بعده وجمع فيها أسس الدين الاسلامى قال صل الله علية وسلم " أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لأدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم وليس لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا أبيض على أحمر ولا أحمر على أبيض فضل إلا التقوى الأهل بلغت " اللهم فاشهد إلا فليبلغ منكم الشاهد منكم الغائب " وعلى هذا فكرامة الإنسان مستمدة من إنسانيته ذاتها لا من أي عرض أخر كالعرق أو اللون أو الطبقة أو الثروة أو المنصب فكلها أعراض زائلة قال عمر رضي الله عنه " إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا طاعته فالناس شريفهم ووضعيهم في ذات الله سواء الله ربهم وهم عباده يتقاضون بالتقوى ويدركون ما عنده بالطاعة " ( 5)

نماذج في فن الاعتذار :

وعن أبي نضرة عند الطبراني :" أنه تشاجر بالكلمات مرة أبو ذر الغفاري وعبد زنجي بلال رضي الله عنهما في حضرة النبي صل الله عليه وسلم ـ فاحتد أبو ذر على العبد وقال له يا بن السوداء فغضب النبي صل الله عليه وسلم وقال طف الصاع طف الصاع أي " قد تجاوز الأمر حده " ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح " فوضع أبو ذر خدُه على الأرض وقال للأسود قم فطأ على خدي فما كان من الأسود إلا العفو وهكذا تكون الأخلاق الإسلامية والمروءة العربية والعفو عند القدرة , إنه لا عبرة بحسب أو نسب ولكن العبرة بالتقوى والعمل الصالح ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه من حديث أبى هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صل الله عليه وسلم ـ قال :" إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ( 6)

ولقد كان العرب في الجاهلية إذا أدوا حجهم وقضوا نُسكهم وقفوا يتفاخرون وينتسبون بآبائهم فذكرهم الله بأن ما يفعلونه صنيع غير مقبول والأولى إن يذكروا الله الذي أنعم عليهم بنعمة السابغة فقال :" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو اشد ذكرا ط سورة البقرة ـ وحتى يكون معنى المساواة ملموسا تأتى الرواية بأن رسول الله صل الله عليه وسلم ـ أمر بني( بياضه ) قبيلة من الأنصار أن يُزوجوا أبا هند وهو مولى من مواليهم امرأة منهم فقالوا يارسول الله صل الله عليه وسلم ـ أنزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت الآية الكريمة :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " سورة الحجرات ونرى أيضا رسول الله صل الله عليه وسلم ـ يزوج ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها مولاه زيد بن حارثة " ( 7)

المساواة أمام القانون والحقوق العامة :

وعن المساواة أمام القانون وفي الحقوق العامة قرر الإسلام أن يعامل الناس جميعا على قدم المساواة أمام القانون وفي الحقوق العامة بدون تفرقة بين صعلوك وأمير ولا بين شريف ووضيع , ولقد بدء أبو بكر رضي الله عنه عهده بقوله " لقد وليت عليكم ولست بخيركم فان أحسنت فاعينونى وإن أسأت فقوموني أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فان عصيته فلا طاعة لي عليكم "ولقد كان لعمر رضي الله تعالى عنه الفضل الكبير في إقامة الدواوين وتمصير الأمصار وجعل لكل بلد والى وقد عمل عمر رضي الله عنه على( استقلال ) أمر القضاء حتى عن سلطان الحاكم فلا ولاية للحاكم على شئون القضاء حتى لا يتأثر في أحكامه في قريب أو بعيد وصار مبدأ مقرر في نظام الحكم الاسلامى " (

يقول عمر رضي الله عنه عندما تولى " أيها الناس إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له , ولا أضعف من القوى حتى آخذ الحق منه , وإني والله لم أرسل عمالي إليكم ليضربوا أجسادكم ولا ليشتموا أعراضكم ولا ليأخذوا في أموالكم " فان الله تعالى أرسل محمداً صلي الله عليه وسلم : ـ هاديا ولم يرسله جابيا للأموال , ولكن أرسلتهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم , فمن فعل به شئ من ذلك فليرفعه إلى فوالدي نفس عمر بيده لأقصنه منه : فوثب عمرو بن العاص فقال يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجلُ في أمراء المسلمين على رعيته فضرب بعض رعيته إنك لتقصى منه قال عمر رضي الله عنه " إي "والذي نفس عمر بيده إذا لأقصنه منه وكيف لا أقُص منه وقد رأيت رسول الله صل الله عليه وسلم ـ يقُص من نفسه , " ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم ولا تجمروهم " أي " لا تبعدوهم طويلا عن بيوتهم وأزواجهم فتفتنوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم" . ( 9)

مواقف في حياة الرسول :

ومعنى وقد رأيت رسول الله صل الله عليه وسلم ـ  يقتص من نفسه ذلك حينما صعد رسول الله صل الله عليه وسلم ـ  يسانده بعض ذوى قرباه في مرض وفاته وهو يقول " أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرض فليستقد منه  ألا لا يقولن رجلُ منكم  إني أخشي الشحناء من قبل رسول الله صل الله عليه وسلم ـ  ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني , ألا و إن أحبكم إلى من أخذ حقا كان له عندي , أو حللنى منه فلقيت الله وأنا طيب النفس , فقام إليه رجل فقال يارسول الله؛ (صل الله عليه وسلم ) إن لي عندك ثلاثة دراهم قال أما إنا لا نكذب أحدا ولا نستحلفه أبلغني  فيما صارت لك عندى؟ قال تذكر يوم مر بك مسكين فأمرتني أن أدفعها إليه قال أدفعها إليه يا فضل والفضل هو ابن عمه العباس أخرجه أبو يعلي والطبراني " إن الرسول صل الله عليه وسلم  لم يبعث جلادا ولا نهابا ولا سبابا إنة لم يكن يعرف الظلم وظل طوال حياته يحاربه " ( 10)

وقد أراد بهذا أن يقول أنى وأنا رسول الله وحبيبه المجتبي ونبيه المرتضي أخشي عاقبه الظلم يوم القيامة , فكيف يكون حالكم ومآلكم أنتم , أراد أن يقول إن ظهري كظهوركم وعرض كأعراضكم ومالي كأموالكم وأنا معكم على سواء أمام قانون السماء , فلم يقل انا أحاسبكم ولا أحاسب وأعاقبكم ولا أعاقب , ويقول عمر رضي الله عنه في رسالة إلى أبي موسي الاشعري رضي الله عنه التي جمع فيها معظم أحكام الإسلام في القضاء : أما بعد- فان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أُدلى إليك وأنفذ اذا تبين لك فانه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له أسي بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك " أي سوى بين المتقاضين في جميع هذه الأمور حتى لايطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ويقول في وصيته للخليفة من بعده اجعل الناس عندك سواء ولا تبال على من وجب الحق ثم لا تأخذك في الله لومه لائم وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله" ( 11)

المساواة بين النظرية والتطبيق :

إن الأمر لم يكن مقصورأً على وضع قواعد وتقرير مبادئ, بل إن التاريخ لينبئنا أن هذه القواعد وتلك المبادئ كانت منفذة بحذافيرها أدق تنفيذ , في عهد الرسول صل الله عليه وسلم ـ و الخلفاء الراشدين المهدين من بعده , فعرف كل إنسان أنه كريم وأن له حقوقا هي حقوق الإنسان وأن له أن يحاسب حكامه وأمرائه وأن عليه ألا يقبل الذل والمهانة والضيم , وعرف الحكام والأمراء أنه يجب ألا تكون لهم حقوق زائدة على حقوق الجماهير من الناس وأنه ليس لهم أن يهينوا كرامة أحد ممن ليس بحاكم ولا أمير وهكذا كان شأن الحكام في زمن الرسول صل الله عليه وسلم ـ أعنى ذلك عصر النهضة الاسلاميه الذي قال فيهم الرسول صل الله عليه وسلم " عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهدين في بعدي" ( 12)

وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما تولى الحكم كتب كتابا إلى جميع الأمصار قال فيه انى أحاسب عمالي في موسم الحج , وقد سلطت الأمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يرفع على شئ ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته , وليس لي ولا عمالي حق قبل الرعية وقد رفع إلى أهل المدينة أن أقواما يشتمون ويضربون فمن ادعي شيئا من ذلك فليأتني في موسم الحج , يأخذ حقه حيث كان منى أو من عمالي أو تصدقوا, إن الله يجزى المتصدقين وقد حققت الحكومة الإسلامية مبدأ العدل بين الناس جميعا لا فرق بين الحكام والمحكومين ولا بين المسلم وغير المسلم , الكل أمام القانون سواء ( 13)

ومن الأمثلة التطبيقية في المساواة أمام القانون :

فقد روى ابن هشام رحمه الله أن الرسول صل الله عليه وسلم ـ كان يُسوى صفوف المقاتلين يوم غزوة بدر فرأى سواد بن غزيه بارزا عن الصف فطعنه في بطنه بقدح وقال استوي سواد فقال سواد: يارسول الله ؛ ( صل الله عليه وسلم ) أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدنى فكشف رسول الله صل الله عليه وسلم – عن بطنه وقال : استقد فاعتنقه سواد فقبل بطنه فقال صل الله عليه وسلم ماحملك على هذا يا سواد قال يا رسول الله حضر ماترى فأردت أن يكون أخر العهد بك ان يمس جلدي بجلدك فدعا له رسول الله صل الله عليه وسلم بخير لقد قرر الإسلام أن الناس سواسية كأسنان المشط كما قدمنا وعاب على بني إسرائيل تفرقتهم في تطبيق القانون بين شريف ووضيع وقد أثارت سرقة المرأة المخزومية جوهر الإسلام في هذه القضية فوضح بيانه فيها لقد سرقت فاطمة المخزومية وهى من صميم قريش فهم القرشيون لذلك فقال رسول الله صل الله عليه وسلم ـ عندما تشفع أسامة بن زيد لها أتشفع في حد من حدود الله إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد " والذي نفسي محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " رواه البخاري ومسلم ( 14)

ومن الأمثلة أيضا على ذلك أن أعرابياً شكا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف لطمه جبلة بغير حق وهو أمير فلم يسع عمر رضي الله عنه إلا أن يُحضر جَبلة ويطلب إليه أن يمكن الأعرابي ليقتص منه لطمة بلطمة إلا أن يعفوا ويصفح وعز على الأميرالغسانى أن يفعل ذلك وقال لعمر بصراحة كيف يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقال عمر إن الإسلام قد سوى بينكما ولم يسع الأمير المسكين هذا المعنى الكبير وخرج من المدينة هاربا مرتدا عن الإسلام الذى يفرض المساواة بين الملك والسوقة أمام شرع الله وغلبت عليه شقوته فكان من الخاسرين ولم يبال عمر ولا الصحابة معه بهذه النتيجة لأن ارتداد رجل عن الإسلام أهون بكثير من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام كالمساواة وخسارة فرد لا تقاس بخسارة مبدأ.وجاء إلى عمر بن عبد العزيز نصارى دمشق يشكون ما صنعه الوليد بن عبد الملك أيام خلافته من إدخال كنيسة لهم في مسجد دمشق فأنصفهم عمر وأمر بردها إليهم ولم يهتم بغضب الغاضبين. " ( 15)

صور من عدل الاسلام :

وقد شكا رجل من الجند أبا موسى الاشعري رضي الله عنه لأنه أعطاه بعض سهمه وأمر الرجل على أن يأخذ سهمه كله فضربه أبو موسى وحلق شعره فمضى الجندي إلى عمر رضي الله عنه يشكو قائده وأميره وكتب عمر إلى القائد الأمير يقول :
إن كنت فعلت ذلك فى ملأ من الناس فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك وإن كنت فعلت ذلك فى خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك , فلما عاد الرجل بكتاب عمر رجاه قوم أن يعفو عن الأمير فأقسم ليدعنه لأحد ثم قعد أبو موسى ليقتص الرجل منه فلما رآه غريمه قاعدا بين يديه فى مجلس القصاص رفع رأسه إلى السماء ثم قال:"اللهم قد عفوت "وشكا يهودي عليا إلى عمر بن الخطاب فى خلافة عمر فلما مثل بين يديه خاطب عمر اليهودى باسمه بينما خاطب عليا رضي الله عنه بكنيته فقال له :يا أبا الحسن حسب عادته فى خطابه له فظهرت آثار الغضب على وجه على فقال له عمر رضى الله عنه أكرهت أن يكون خصمك يهوديا وأن تمثل معه أمام القضاء على قدم المساواة فقال علىَّ لا ولكنني غضبت لأنك لم تسو بيني وبينه بل فضلتنى عليه إذ خاطبته باسمه بينما خاطبتى بكنيتى والخطاب بالكنية كان أسلوبا من أساليب التعظيم " ( 16)

وحدث مرة أن ولدا لعمرو بن العاص رضي الله عنه ـ ضرب رجلا من دُهماء المصريين في عهد ولايته على مصر فأقسم المجني عليه ليشكونه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ فقال له اذهب فلن ينالني ضرر من شكواك فأنا ابن الأكرمين فبينما كان الخليفة عمر بن الخطاب مع خاصته وعمرو بن العاص وابنه معهم فى موسم الحج قدم هذا الرجل عليهم مظلوما وقال هذا الرجل ظلمني وأشار على ولد عمرو بن العاص , ولما توعدته بأن أشكوه إليك قال اذهب فأنا ابن الأكرمين فنظر عمر بن الخطاب إلى عمرو وقال قولته المشهورة : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " ثم توجه إلى الشاكي وناوله درته(عصا فى أخرها قطعة من الجلد)وقال له:" اضرب بها ابن الأكرمين كما ضربك" وحدث مرة أن عمر بن الخطاب فى أيام خلافته رأى رجلا وامرأة على فاحشة فجمع الناس وقام فيهم خطيبا وقال"ما قولكم أيها الناس لو رأى أمير المؤمنين رجلا وامرأة على فاحشة؟فقام على بن أبى طالب وأجابه بقوله"يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه فى ذلك شأن سائر المسلمين"ثم تلا قوله تعالى :"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون "فسكت عمر رضي الله عنه ولم يعين شخص المجرمين). 17)

معامله غير المسلمين :

ويسوى الإسلام في تطبيق هذه المبادئ بين المسلمين وغير المسلمين فيقرر أن الذميين ( وهو المعاهد من غير المسلمين ) في بلد اسلامى أو في بلد خاضع للمسلمين ان لهم ما للمسلمين في حقوق عامة وعليهم ما على المسلمين وتطبق عليهم القوانين القضائية التي تطبق على المسلمين الا ماتعلق منها بشئون الدين فتحترم فيه عقائدهم وشعائرهم ولا يكرهون على الإسلام كما يجب على الدوله الاسلاميه حماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم ويجب على كل مسلم أن يتجنب كل ما فيه أذى لهم أو اضرار بهم .قال صل الله عليه وسلم من أذى ذميا فقد آذاني ومن آذاني فقد أذى الله " – رواه الطبراني – وقال صل الله عليه وسلم " من ظلم معاهدا أو إنتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته او أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجة يوم القيامة " رواه أبو داود وعلى هذا قرر الفاروق عمر رضي الله عنه نفقة من بيت المال لرجل ذمى يتسول وقال قولته المشهورة "ما أنصفناك اذ أخذنا منك الجزية وأنت شاب وتركناك تتسول وأنت شيخ كبير" (18)

ومن هنا نعلم أن المساواة فى الإسلام ميدانا فسيحا نجده محددا في المجتمع الاسلامى أقامه القرآن الكريم والسنة المطهرة على أساس من الحق والعدل والاحسان وأحاطه بفيض من البر والمواساة والفضل "ولا تنسوا الفضل بينكم "دون ان تمس هذه المساواة بدرجات الفضل الذى خلقه الله فى عباده.
وبعد – فليس الاسلام دينا يقتصر على العبادة ولكنة شامل لحاجات البشر في دينهم ودنياهم فامتاز بعقيدته كما تميز بشريعته" يقول أمير الشعراء شوقي مخاطبا الرسول صل الله عليه ويلم ــــــــــ ↓
فرسمت بعدك للعباد حكومة ــــــــ لا سوقة فيها ولا أمراء
الله فوق الخلق فيها وحده ــــــــ والناس تحت لوائها أكفاء
والدين يسر والخلافة بيعة ــــــــ والأمر شورى والحقوق قضاء " ( 19)

خاتمة :

ولقد طبق المسلمون هذا المبدأ في مجتمعهم فلم يكن هناك ساده وعبيد ولا فقراء وأغنياء, ولا ملوك وسوقة بل كانوا جميعهم متساوين أمام مبادئ الاسلام ونظمه كما كانوا أخوة متحابين متعاونين متواضعين , فقد روى الأمام احمد أبو داود ان النبي صل الله عليه وسلم قال :" إخوانكم خَولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوة تحت يده فليطعمه مما طعم وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل مالا يطيقون فان كلفتموهم فأعينوهم " ففي هذا الحديث تذكير بنعمه الله حيث جعل لك من يقوم بخدمتك ولو شاء الله لجعلك في المقام بدلاً منه والإسلام يقول لك أن شكر هذه النعمة يتمثل في عدم احتقار أحدكم لخادمه فلا ينبذه عند الطعام ولا يُلقي له بفتات مائدته وفضلات طعامه ولكن يطعمه مما يأكل منه وهذا هو الشكر الحقيقي لتلك النعمة . كما ينهي الرسول صل الله عليه وسلم ان يقول الرجل لخادمه ياعبدي ويا أمتي لأن العبودية الحقة لا تكون الا لله عز وجل وذلك حين يقول " لا يقل أحدكم عبدي وامتى وليقل فتاي وفتاتي "رواه مسلم " ( 20)

ويقول صل الله عليه وسلم :" إن الله تعالى أوحي إلىَّ أن تواضعوا حتي لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد " ففيم التكبر والافتخار ؟ وهناك رجل ابتلي بمرض الكبر ونسي أصله وأنه من تراب تدُسه الأقدام . وعمى عن حقيقته ذاته , فأراد بعض الصالحين : أن يلقنه درسا لا ينساه فنادي الرجل الصالح ذات يوم هذا المتعجرف والمتكبر بقوله يا عبد الله . فغضب وقال أتنادينى؟ أتدرى من أنا؟ قال الرجل الصالح نعم إنني أعرف أصلك ونسبك وإن شئت أخبرتك فقال :" أخبرني . فقال أنت في الأصل نطفه مُذرة وفي القبر جيفة قذرة وبينهما تحمل ألعذره " ورحمه الله الشاعر إذ يقول :
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
ـ إن يكن لهم في الأصل شرف يفخرون به فالطين والماء

وهكذا علم المسلمون أن النسب الذي يُعلي قدرهم ويزيد في شرفهم ويتباهون به على غيرهم هو التقوى هو صلتهم بالله وليس هناك طريق يوصل اليه سبحانه الا هذا الطريق ولا باب يؤدى الى ساحة رضوانه إلا هذا الباب فتنافسوا عليه . إن الإسلام دين عالمي جاء للناس كافه بغير استثناء فمن أطاع وتابع دخل في السعادة الأبدية ومن أبي وعصي فقد حُرم ودخل في الضلال وارتضي لنفسه التعاسة والشقاء وهذا هو معنى قول الرسول – صل الله عليه وسلم –( كلكم تدخلون الجنة الا من أبي؟قالوا ومن يأبي يارسول الله ؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي ) رواه البخاري " ( 21) ( روجع اليوم 6 ـ فبراير 2016 ) وقد كتب هذا البحث سنة 1420 هجريه ـ وكان عبارة عن محاضرة للشيخ سامي ". موقع من فقه الإسلام للشيخ سامي وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم