من اخلاق الاسلام الحلم والتسامح :

المسلم متسامح مع الخلق :

يقول الله تعالى :" خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " سورة الأعراف الآية 199 ـ روى محمد بن حارث الهلالي أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صل الله عليه وسلم فقال يا محمد إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " سورة الأعراف الآية 199 ـ
وفى هذه الآية الكريمة جمع الله مكارم الأخلاق بأسرها _ ففيها صلة القاطعين والصفح عن الظالمين , وإعطاء المانعين , وفى الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الرحم , وصون اللسان عن الكذب , وغض الطرف عن المحرمات , والتبروء من كل قبيح , ولأنه يجوز أن يأمر بالمعروف وهو يلابس شيئا من المنكر , وفى الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وتنزيه النفس عن مقابلة السفيه بما يوقع الدين " يعنى يفسد الدين ويسقط المروءة " إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت * سكت عن السفيه تكرما فظن أنى عييت عن الجواب وما عييت ( 1)

                                                             

و لقد حث الإسلام أتباعه على مكارم الأخلاق , ووجهم إلى أن يتعملوا فيما بينهم بالحلم حتى تسود الرحمة والمحبة والمودة , جنبات المجتمع الاسلامى وقد وضع الله لعباده من النظم والقوانين والمناهج والتعاليم , ما يكفل لهم عز الدنيا وسعادة الآخرة بما يضمن لهم النجاة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "
وقد جاء الإسلام رحيما بالأتباع  شديدا على الأعداء وفى ذلك يقول الله تعالى :"  محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا "  سورة الفتح الآية 29 ـ
ولقد إتخذ الصحابة رضوان الله عليهم من سيرة الرسول صل الله عليه وسلم الأسوة والقدوة في أخلاقهم وسائر أعمالهم قال تعالى :" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثير "  سورة الأحزاب الأية 21 ـ     وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه " ( 2)

أقسام الناس في أخلاقهم وطباعهم :

إن الناس في حياتهم يتفاوتون في طباعهم وميولهم ويختلفون في منازعهم ومشاربهم وهم على أصناف ثلاثة :
صنف يقل منه فعل الخير وكثيرا ما يصدر عنه فعل الشر وإذا ما حول إنسان أن يدفعه إلى ما هو خير
والى اجتناب ما هو قبيح أعرض ونأى بجانبه وربما قابل هذا النصح الهادئ بالصد والإيذاء هذا الصنف شعاره في الحياة خذ ولا تعط وابدأ الناس بالإيذاء حتى تكون غالبا دائما وعند هؤلاء أن من لايظلم الناس يظلم ويقولون أيضا : تذئب قبل أن تأكلك الذئاب
وصنف ثان يفعلون الخير ولكنهم ينتظرون الجزاء العاجل من الناس وإذا كان لهم حق عند غيرهم أصروا على أن يأخذوه كاملا ولا يتهاونوا في طلبه والحصول عليه إنهم لا يبدأون أحد بظلم أو عدوان ولكنهم إن ظلموا إنتقموا ممن ظلمهم وحرموا من حرمهم وردوا الأذى عن أنفسهم بكل ما يستطيعون من وسائل إن شعارهم في الحياة الشر بالشر والبادئ أظلم " ( 3)

وهناك : صنف ثالث من الناس يتجاوزون العدل إلى الفضل , لا يظلمون أحد بل يعفون عمن ظلمهم , ولا يبخسون أحدا حقه بل يسمحون له ببعض حقوقهم , إن نالهم أذى من غيرهم لم يقابلوه بأذى مثله بل أعرضوا عمن قدم الأذى تكرما منهم مع قدرتهم على أن ينتقموا لأنفسهم ...أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقو به.
إن هذا الصنف من البشر كريم النفس طيب الخلق عالي المروءة يبث في مجتمعه ظلالا رفيعة من النور والخير والمعروف وهو جديرا بتكريم الله له حيث مدح من يغفر عند غضبه بقوله:"وإذا ما غضبوا هم يغفرون" سورة الشورى 37 ـ والإسلام يجعل الأصل في الجزاء مقابلة السيئة بمثلها حتى لا يتبجح الشر ويطغى حين لا يجد رادعا يكفه عن الإفساد في الأرض " وجزاء سيئة سيئة مثلها" سورة الشورى الآية 40 ـ وذلك هو الحق والعدل"والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" سورة الشورى الاية 39 ـ ، لكنه يجعل العفو دليلا على صلاح النفس من الغيظ وإصلاح الجماعة من الأحقاد " فمن عفا وأصلح فأجره على الله انه لا يحب الظالمين" سورة الشورى الآية 40 ـ ( 4)

ويؤكد القرآن الكريم أن الذي ينتصر بعد ظلمه ويجزى السيئة بالسيئة ولا يعتدي ليس عليه جناح , وهو يزاول حقه المشروع بدون مجاوزة للحد ومن غير بغى ولا ظلم  " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم" سورة الشورى آية 41ـ
ومع ذلك كله فالصبر والسماحة إستعلاء على غضب النفس وهو من الأمور التي لا يقدر عليها إلا أولو الفضل من الناس : " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور    " سورة الشورى الآية 43 ـ  وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه " ( 5)

فضل الحلم :

وأخرج البخاري وأبو داود عن رسول الله صل الله عليه وسلم :"من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الإشهاد حتى يخيره من الحور العين شاء".
وفى الحديث أيضا :" ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق , ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الظلم والباطل , ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له"
وفى بعض الحكم :" إذا أسديت جميلا لإنسان فحذار أن تذكره به وإذا أسدى إليك إنسان جميلا فحذار أن تنساه له."
وفى الحديث القدسى عنه صل الله عليه وسلم قال الله تعالى :" لا يشكر الله من لا يشكر الناس"

الحلم من صفات الأنبياء والمرسلين :

فالحلم من اشرف الأخلاق وأحقها من ذوى الألباب لما فيها من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد "
وكفى به شرفا انه من الصفات التي مدح الله بها المرسلين لما لها من أثر واضح في تمكين دعوتهم...
وقد وصف الله بها إبراهيم عليه السلام عليه السلام بقوله:" إن إبراهيم لحليم أواه منيب" سورة هود الآية 75 ـ وقال في ولده إسماعيل عليه السلام :" فبشرناه بغلام حليم" سورة الصافات الآية 101 ـ ( 6)

وذكر عن يوسف عليه السلام ـ تخلقه بخلق العفو عند القدرة على الانتقام , حينما وقف إخوته الذين تآمروا عليه في صباه وألقوه في غيابت الجب , لكنه بعد أن قدر عليهم خاطبهم بقوله :" لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" سورة يوسف الآية 92 ـ ورسولنا ـ صل الله عليه وسلم ـ ألف حول دعوته القلوب وجعل أصحابه يفدونها بأرواحهم وبأعز ما يملكون بخلقه الكريم وبحلمه وعفوه وكثيرا ما كان لا ينتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينقم لنفسه لله بها ولما استشهد عمه حمزة ـ رضي الله عنه ـ بيد وحشي .. وحمزة من أحب الناس إلى رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ وكان مستبسلا في الدفاع عن دعوة الإسلام غضب الرسول على وحشي القاتل وأقسم ليقتلن بحمزة سبعين من المشركين ولا مثلن بهم مثلي لم يمثلها أحد من العرب , ولكنه صفح وعفا عندما نزل قول الله تعالى :"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" سورة النحل الأية 126 ـ ( 7) وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

من مواقف الحلم مع رسول الله صل الله عليه وسلم :

وتمضى الأيام ويدخل وحشي هذا في دين الإسلام , ويذهب مع الجيش الاسلامى الذي توجه لردع مسيلمة الكذاب , ومن معه وقتل بيده مسيلمة , وقال : في ذلك لقد قتلت خير الناس وقتلت شر الناس , وفتح رسول الله_صلى الله عليه وسلم ـ مكة ودخلها نهارا بعد أن أخرج منها ليلا , وحطم الأصنام بيده الشريفة ووقف أهل مكة أمامه ينتظرون العقاب الذي سينزله بهم , رسول الله صل الله عليه وسلم ـ جزاء ما اقترفت أيديهم من إيذاء له , لا يتحمله إلا أهل العزمات القوية إلا أنه قال لهم :" ما تظنون انى فاعل بكم قالوا: " خيرا أخ كريم وابن أخ كريم" قال لهم إذهبوا فأنتم الطلقاء " وسيرة رسول الله صل الله عليه وسلم ـ تفيض إشراقا بمواقف العفو والحلم وتُعد نماذج لمن ينشد معالي الأمور..ومعالم لمن يطلب حياة الشرف والمروءة , قال له : أعرابى يوما وهو يقسم الغنائم أعدل فان هذه قسمة ما أريد بها وجه الله " فلم يزد في جوابه : صل الله عليه وسلم ـ أن بين له ما جهله ووعظ نفسه وذكرها بما قال له الأعرابى :" وقال : ويحك فمن يعدل إن لم أعدل خبت وخسرت إن لم أعدل" صل الله عليه وسلم (

, ونهى أصحابه أن يقتلوه حين هم بعضهم بذلك , إن الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه ـ لم  تأخذه الدهشة من قول الاعرابى لأنه يعرف أن في طبيعة الناس صنفا منهم مرد على الجفوة في التعبير والإسراع بالشر , وأمثال هؤلاء لو عوجلوا بالعقوبة لقضت عليهم , لكن المصلحين العظماء يربون أنفسا على الطهر والسمو ويبنون المجتمعات على الأخلاق الفاضلة والصفات النبيلة , وليس الإنسان القوى هو الذي أوتى حظا من قوة في يديه أو سُلامة في جسده بل الإنسان القوى حقا هو الذي ينظر إلى هفوات الناس على أنها فورة عارضة , فيتغاضي عنها وسرعان ما تزول , وقد أرشدنا إلى ذلك رسول الله ـ  صل الله عليه وسلم ـ بقوله:" ما تعدون الصرعة فيكم" , قالوا : الذي لا تصرعه الرجال,قال :" لا , ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب رواه البخاري ومسلم من حديث بن مسعود رضي الله عنه ـ جاء رجل إلى رسول الله صل الله عليه وسلم ـ  وقال له : "  أوصني ولا تكثر على كي لا أنسى قال :  لا , تغضب رواه البخاري .  ـ وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (9)

الجزاء والثواب :

وتتوالى توجيهات رسول الله صل الله عليه وسلم ـ لتأكيد هذا الخلق الرفيع فيروى عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات؟ قالوا : بلا يا رسول الله ,قال : تحلم على من جهل عليك , وتعفو عمن ظلمك , وتعطى من حرمك , وتصل من قطعك ", وعَد القرآن الكريم هذه الشمائل الرفيعة وجعلها طريق الفلاح التي تأخذ بيد صاحبها الى الفردوس الأعلى والى النعيم المقيم حيث قال تعالى :" وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " سورة آل عمران الآية 134 ـ (10)

والإنسان منا في حياته يلاقى كثيرا مما يؤلمه ويسمع كثيرا مما يؤذيه ...ولو ترك كل واحد منا نفسه وشأنها ليرد الإساءة بمثلها لعشنا في صراع دائم مع الناس ولما   استقام نظام المجتمع وما صلحت العلاقات الاجتماعية التي تربط بين المواطنين .....فعلى الإنسان أن يتجمل بالإحسان وأن يتزين بمكارم الأخلاق وأن يتذكر قول الله تعالى : " ولاتستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم  "  
قال تعالى " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة  "
وأخرج الترمذي عن على رضي الله عنه عن رسول الله صل الله عليه وسلم : "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضا يوما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما "  ( 11) وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سماحة الإسلام حتى فى الحرب:

تتجلى لنا سماحة الإسلام ورحمته أكثر من حالات الحروب , التى تغلى فيها الدماء ويكثر فيها العدون والإعتداء على المسلمين , وتنتهك الحرمات ويقتل الأبرياء فى هذا الجو العاصف بكل القيم والفضائل التى جاء بها الدين الإسلامى الحنيف وهو كتاب المسلمين المقدس المطاع لدى المؤمنين قال تعالى " وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لايحب المعتدين " سورة البقرة 190 _ وهذه الآية الكريمة تضع القتال والحروب . فى أضيق نطاق , فلا يحارب المسلم غير المحاربين له , ولا يدمر المدن والمصانع ويهلك الحرث والنسل دون ما يدعوا لذلك , ولا يغتصب إمرأة ولايهتك عرضا ولايقتل وليدا وامرأة ولاشيخا ولاراهبا ليس له ضلع فى القتال
( 12)

, هذه سماحة الإسلام ومكارمه وحدود تعامله حتى مع الذين يقاتلونه , وقد ظللت هذه السماحة جميع الذين عاشوا تحت حكم المسلمين , قرونا عديدة ولم ينهب المسلمون أموالهم ولم يهدموا كنائسهم وبيعهم , ولم يكرهوهم على ترك دينهم , ولم يضيقوا عليهم أرزاقهم , ولم يقيدوا حرية أحد فى التنقل من مكان إلى مكان . فاعشوا فى أمان وبر ورعاية وعدل , حتى القبطى الذى ضربه , ابن عمرو بن العاص حاكم مصر وجد الإنصاف والعدل والترضية الكاملة عند أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب الذى استقدم حاكم مصر إلى المدينة المنورة وأمر القبطى أن يقتص من ابن عمرو بن العاص ليضربه كما ضربه ولما أخذ القبطى بحقه قال له أمير المؤمنين عمر رضى الله تعالى عنه , أضرب بها على صلعة عمرو بن العاص فما حمل الولد على هذا إلا جاه أبيه , فقال القبطى , قد أخذت بحقى ممن ضربنى , ( 13)

إن هذا المعاملة الكريمة من السمحة والعدل تبدوا الآن فى دنيا الناس وكأنها أضغاث أحلام ومجرد أمانى تذكر ومثالية لايمكن تحقيقها وغاب عنهم أن ذلك قد تحقق فعلا , وتحدثت عنه كتب السير والتراث الإسلامى وآثاره شاهدة إلى يومنا هذا والمهم والأهم أن يلتزم الجميع أوامر الله تعالى ولا يتعدى حدوده , أين هذه السماحة الإسلامية وما يحدث الآن فى بلاد العالم المعاصر التى تترك المسلمين فى بورما وكشمير  وغيرها من البلاد التى يعتدى فيها على المسلمين بالحروب والإبادة , والتطهير العرقى وما ذاك إلا لأنهم مسلمون ويقع ذلك تحت سمع الدول الغربية المتحضرة من اغتصاب النساء وهتك أعراضهن وقتل الأطفال والشيوخ وهدم المدن على رؤوس أهلها وتشريد الآلاف والملايين من ديارهم دون أن يكون لهم يد فى الحرب الظالمة الدائرة بين المسلمين التى ليس فيها تكافؤ , إن الدول التى تنادى بحقوق الإنسان قد سقطت مصدقيتها عند التطبيق العملى فدل ذلك على أنهم لايتحركون الا إذا كان لهم مصلحة " اللهم إنصر الإسلام وأعز المسلمين وقاتل الكفرة أعداء الدين الذين لايؤمنون بوعدك ولابوعيدك , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  ( 14)

بين الرفق والعفو :

إن من أسماء الله تعالى العَفُوَّ، وهو مشتق من العَفْو، وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، يقول تعالى: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون " سورة الشورى: الآية 25. والله عز وجل يحب أن يُسأل ، وأفضل ما يسأله العبد العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة ، ومن حديث عائشة رضي الله عنه قالت : يا رسول الله صل الله عليه وسلم ، أرأيتَ إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ فقال:" تقولين: " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني" والله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يتصفوا بصفاته ، فهو رفيق يحب الرفق ، رحيم يحب الرحماء ، عفو يحب العفو، ولذلك جاء في وصف النبي صل الله عليه وسلم أنه لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولذلك عفا عن أهل مكة بعد أن فتحها الله تعالى له ، على الرغم مما فعلوه به وبأصحابه ، وهو القائل صل الله عليه وسلم :" ما زاد الله رجلا بعفو إلا عزًا".

.والعفو من صفات المؤمنين المتقين ، يقول تعالى: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يُحب المحسنين " سورة آل عمران الآية134 ـ ، ويقول تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله " سورة الشورى الآية 40 ـ ، يقول الحسن البصري: "إذا كان يوم القيامة نادي مناد: ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا"، ولكن من الذي ينال هذا الأجر العظيم بعفوه عن الناس؟ يقول تعالى: " وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم " سورة فصلت: الآية 35 ـ .وإن أحق من عفوت عنهم أهلك وزوجك وأبناؤك , لأنهم بشر، والبشر قد تزل يده أو لسانه ، فإن كنت حليمًا رحيمًا ترحم من أخطأ وتعفو لوجه الله فإنه يُرجى لك الخير، وكم من كربات فرجها الله عن أُناس عاملوا الآخرين باليسر وبالغض عن الإساءة ، فمن عفا عن أقرب الناس إليه وتجوز عن زلته عفا الله عنه لذلك ، وكما لغيرك أخطاء فلك أنت أيضا أخطاء ، فمن عفا وأصلح عفا الله عنه وغفر له ،

ولذلك عندما قذف مسطح بن أثاثه أمنا عائشة رضي الله عنها ـ  في حادثة الإفك وهو ابن خالة أبي بكر حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه شيئًا ، وكان من فقراء المهاجرين ، فنزل قوله تعالى: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تُحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم   "  سورة النور: الآية 22 ـ ، فقرأها النبي صل الله عليه وسلم ـ  على أبي بكر فقال رضي الله عنه: بلى والله ، إني لأحب أن يغفر الله لي ، فأعاد ما كان ينفقه على مسطح الذي قذف ابنته واتهمها بالزنا ، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا. وسلوا الله تعالى العافية ، وأعفوا عمن أساء إليكم ابتغاء وجه الله تعالى ، وإياكم أن يستزلكم الشيطان فيجعلكم تقطعون أرحامكم في لحظة غضب ، فتقع بينكم العداوة والبغضاء ، وماذا عليك ـ يا عبد الله ـ لو أن أحدًا أساء إليك بكلمة في مجلس فتجاوزت عنه وعفوت؟! وقد قال الصادق المصدوق: " وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزًا" . موقع من فقه الإسلام للشيخ سامي ـ وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

من مكارم الأخلاق :

لقد حثنا ديننا الحنيف على مكارم الأخلاق وإلى معاملة الآخرين بالحسني و إشاعة جو التسامح والسلام بين المسلمين ، وبين غيرهم من المجتمعات حتى من غير المسلمين ما داموا لنا مسالمين ومستقيمين قال تعالى :" فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يُحب المتقين " سورة التوبة الآية 7 ـ ، ولقد اعتبر الإسلام التسامح والعفو عند المقدرة من مكارم الأخلاق ، ولهذا كان رسول الله صل الله عليه وسلم في تعامله مع المسلمين وغيرهم متسامحاً كما وصفه ربه عز وجل في كتابه الكريم :" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم " سورة التوبة ، الآية 128، وهو بذلك يتمثل أخلاق الإسلام كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم ـ :" يا عقبة , ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ تصل من قطعك , وتعطى من حرمك , وتعفو عمن ظلمك " رواه الطبراني وابن أبى الدنيا في مكارم الأخلاق والبيهقي في الشعب ,

و في أثناء عودته عليه الصلاة والسلام من الطائف ، لقي كل ألوان الأذى والبطش والاضطهاد ، لكنه صبر على الأذى وتحلى بخلق التسامح ، ولقي نفس الأذى من أهل مكة الذين ناصبوه العداء، وأخرجوه من أحب أرض الله إلى قلبه ، وبالرغم من ذلك ، جاء يوم فتح مكة ، وبعد أن من الله على المسلمين بنصر عزيز، خاطب الرسول صل الله عليه وسلم أهل مكة ، بقوله لهم :" ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء"

وعفا رسول الله صل الله عليه وسلم عن خاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، بعدما أفشى سر جيش الفتح ، فأراد البعض أن يقتص منه ، ولكن رسول الله عليه وسلم قال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم، وكان حاطب ممن أهل بدر , فعندما ينتشر خلق التسامح بين الناس ويشيع ، تتآلف القلوب وتصفو العلاقات وتتماسك ويستمر التعايش والتعاون على الخير والبر قال تعالى :" وتعاونوا على البر والتقوي ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " سورة المائدة الآية 2 ـ . دعاء مؤلف : ـ اللهم أعطني من الحلم أجمعه ـ ومن العلم أنفعه ومن الرزق أوسعه واجعلني من عبادك الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . ". موقع من فقه الاسلام للشيخ سامى وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

بين العفو والتسامح :

الإنسان مدني واجتماعي بطبعه وهو ما يوجب بالضرورة الاحتكاك والتنازع ، لذلك يعتبر التسامح أساس استمرار العلاقات بين الناس وضمان التعايش ، قال تعالى :" وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصير " سورة الفرقان الآية 20 ـ  وخلق التسامح من أفضل أخلاق الإسلام وهو مطلوب في كل علاقات المؤمن ، حتى ينتشر في كل مجالات حياته ، في التجارة والخدمات والعلاقات العامة والأسرية ، يقول تعالى آمراً رسوله بخلق العفو :" فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله  إن الله يُحب المتوكلين " سورة آل عمران الآية 159 ـ وقال سبحانه :" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " سورة النحل الآية 126 ـ

وحينما ينتشر بين الناس خلق التسامح  ويشيع ، تتآلف القلوب وتصفو العلاقات وتتماسك ويستمر التعايش والتعاون على الخير، وهذه النتائج من أكبر مقاصد الإسلام إذ المسلمون إخوة كما ذكر لنا القرآن الكريم :" إنما المؤمنون إخوة". سورة الحجرات ـ  وثقافة التسامح تشكل صمام الأمن والأمان لأمة تريد حياة مطمئنة ومزدهرة ومتقدمة ، كما تشكل الأساس الصلب والمتين لعلاقات طيبة على مستوى الأفراد والمجتمعات.ومما يلفت الانتباه إلى وجود كثير من الآيات الكريمة في القرآن الكريم ، تدعو إلى اللين والسلم ونبذ العنف والبطش ، يقول سبحانه وتعالى :" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " سورة النحل الآية 125 ـ

ويقول عز من قائل :" خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " سورة الأعراف الآية 199 ـ  وفي آية أخرى يقول عز وجل :" وليعفوا وليصفحوا ألا تُحبون أن يغفر الله لكم " سورة النور الآية 22ـ  ويقول الله تعالى في كتابه العزيز: " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم "  سورة فصلت الآية 34 ـ  ويقول عز وجل :"  الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين "  سورة آل عمران الآية 134، وبذلك  يتضح لنا أن منهج القرآن يدعوا إلى التسامح ويُرغب في التعامل بالحسنى مع الناس.

جزاء الإحسان :

إن من أحسن إليك ثم أساءَ فقد ضاع إحسانه , وأشدُ منه من أحسنت له ثم يُسئ لك ومن يقرأ سير الأنبياء والصالحين من عباد الله , يجد أن مَعروفُهم لغيرهم كان   أشمل وجميلهم أعظم ، ومع ذلك قُوبلوا بأشدِ ما يكون من عداوةِ وجحودِ ونكرانِ ,
ولقد انتشرت في هذه الآونة ,  بعض العبارات التي تدل على مفاهيم خاطئة تخالف العقل والدين وتجافى المعاني الإنسانية السليمة , وهى أن الإنسان الصادق صاحب الخلق الكريم , المحسن لعباد الله لا يُمكنه أن يعيش في هذا العصر , فلا يستطيع أن يعيش حياته بين الناس إلا سليط اللسان , صاحب الصوت العالي وهم يقولون " تذئب قبل أن تأكلك الذئاب " وبذلك تغيرت المفاهيم وانقلبت الموازين , فالحياة اليوم كما يقولون أيضا ـ لا تكون إلا  لمنطق القوة ولا مجال فيها للتسامح ,

القدوة الحسنة في حياة الأنبياء والصالحين :

ومن يستعرض سير الأنبياء والصالحين ، يجد أنهم ما بلغوا مراتبَ الكمال من العلم والإيمان إلاَّ بصدقهم وبعفوهم وصَفحهم ، وهو أرفع من العفو لأنه بلا معاتبة ، وإنَّ من أخلاقهم وصفاتِهم العفوَ عمن أساء إليهم قولاً وفعلاً ، وأنهم أعطوا دروساً في التربية الحقَّة على معاني الأخلاق الفاضلة السامية ، ومنهم سيدنا يوسف  عليه السَّلام - فقد كاد له إخوته حتى هموا بقتلِه ، ثم ما لقيه منهم من حسد وكيد وافتراء ، ولكنَّه قابل ذلك كلَّه بالإحسان والعفو، بل والدعاء لهم بالمغفرة ، وكان بإمكانه  وهو سُلطان بيده النفوذ والقوة ، وأمره مطاع - أن يوقع بهم أشدَّ أنواع العقوبة ، ولكنه عفا عنهم ، وهو من كمال الإحسان أنْ يعفو عن مقدرة واقتدار، فقال لهم بعد اجتماعه بهم: "قالوا تاللهِ لقد آثركَ اللهُ علينا وإنَّ كنا لخاطئين , قال لا تثريبَ عليكمُ اليومَ يغفرُ اللهُ لكم وهو أرْحمُ الراحمينَ " سورة يوسف الآية 91 ـ 92 ـ