بين الخوف والرجاء

الخوف من الله تعالى من صفات المتقين:

الخوف من الله  تعالى  سمة المؤمنين، وعلامة المتقين، وسلوك العارفين، لأن خوف الله  تبارك وتعالى - في الدنيا طريقٌ للأمن في الآخرة، وسببٌ للسعادة في الدارين، ودليل على كمال الإيمان، وحسن الإسلام، وصفاء القلب، وطهارة النفس، فإذا ما سكن الخوف في القلب أحرق مواضع الشهوات منه، وجرت العيون بالدموع.
والبكاء من خشية الله  تبارك وتعالى -، ولذلك فضل كبير عند الله  تبارك وتعالى –كما يقول المولي تبارك تعالى:" قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا, ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا , ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" سورة الإسراء : الآية 107 ـ و109 ـ وقال سبحانه:" الم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " سورة الحديد الآية : 16 ـ                                                                    ـــــــــــ( 25) ـــــــــــ

وقال الله عز وجل :" أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً" سورة مريم الآية 58 ـ وقوله تعالى :" يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها تزهل كل مرضعة عما أرضعة وتضع كل ذات حمل حملها وتري الناس سكري وماهم بسكاري ولكن عذاب الله شديد "سورة الححج : الآية 1 ـ 2 ـ ففي هذه الآيات وغيرها ، دلالة على أن أهل الإيمان سريعي التأثر بآيات الله تبارك وتعالى -.وورد كذلك في السنة في فضل البكاء من خشية الله تعالى أحاديث كثيرة نذكر منها:ـ أن من بكى من خشية الله تبارك وتعالى - لا تمس عيناه النار ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم - يقول: "عينان لا تسمهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".رواه الترمذي في سننه , وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ,وقال الألباني: صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب وقال في تحقيق مشكاة المصابيح صحيح. سنن الترمذي, والنسائي ,- ( 26 )

ولا يلج النار أحد بكي من خشية الله عز وجل , لحديث أبي هريرة رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم -: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعوده اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم" ،‏وفي حديث أبي هريرة عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ " كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله ‏,‏ وعينا سهرت في سبيل الله ‏,‏ وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله تعالى " وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه - عن النبي صل الله عليه وسلم - يروي عن ربه جل وعلا - قال:"وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة. " رواه ابن حبان في صحيحه ، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة .ـ (27 )

والخائف من خشية الله تعالى يكون ممن يظل تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى - في يوم يكون الناس فيه في أشد حاجة إلى الظل حين تدنو الشمس من الرؤوس، والناس علي قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً، والنجاة والظل الظليل يبينه لنا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه - عن النبي صل الله عليه وسلم - قال: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" رواه البخاري,ومسلم . ‏وأخرج ابن أبي الدنيا أنه صل الله عليه وسلم قال ‏:‏ " إذا اقشعر جسد العبد من مخافة الله عز وجل تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " ‏.‏ ‏وقد أمر الله سبحانه عباده بالخوف منه، وجعله شرطاً للإيمان به سبحانه فقال: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين". آل عمران. ولهذا يقول ابن أبي مليكة أحد التابعين رحمه الله تعالى: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صل الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه , يعني أن ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقاً من شدة خوفه من الله تعالى.( 28 )

وإليكم أيها الأخوة الأكارم :نماذج وصور من بكائه صلوات الله عليه وآله وسلم ـ كما جاء عن عطاء رضي الله عنه - قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها - فقالت لعبيد بن عمير: "قد آن لك أن تزورنا فقال: أقول يا أمه كما قال الأول: "زر غباً تزدد حباً"، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صل الله عليه وسلم -؟ قال: فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: "يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي" قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرك قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال:" أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها :" إن في خلق السموات والأرض ...الخ سورة آل عمران: الآية 190 ـ رواه ابن حبان في صحيحه ,وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم؛ والبيهقي في السنن الكبرى ,وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ـ. (29 )

وأيضا من النماذج على سبيل الميثال لا الحصر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - قال: قال لي النبي صل الله عليه وسلم -:"اقرأ علي، قلت: آقرأ عليك أنزل؟ قال:"فإني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت:" فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك علي هؤلاء شهيدا " سورة النساء: الآية 48 ـ رواه البخاري في صحيحه ومسلم. ‏وكان لصدر رسول الله صل الله عليه وسلم أزيز كأزيز المرجل من البكاء أي فوران وغليان كغليان القدر على النار ‏.وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما - قال: قال أبو بكر رضي الله عنه - يا رسول الله أراك شبت، فقال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ".( 30 )

وهنا أيضا نماذج من صور من بكاء السلف رضوان الله عليهم -: وهي اكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر عن كثير من الصحابه التابعين وغيرهم من عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين ,حيث أنهم كانوا كثيرا ما يبكون من خشية الله عز وجل ، ومن المواقف التي تؤيد ذلك:كما في حديث أنس رضي الله عنه - قال: خطب رسول الله صل الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً"، قال: فغطى أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم - وجوههم لهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان. فنزلت هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " سورة المائدة : الآية 101 ـ رواه البخاري ومسلم .وعن قيس بن أبي حازم قال: "كان عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - واضع رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل " وإن منكم إلا واردها " سورة مريم : الآية 71 ـ فلا أدري أنجو منها أم لا" رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه؛.( 31 )

وعن عمار أبو المعتمر قال: سمعت بشر بن منصور قال: قلت لعطاء السليمي: "يا عطاء ما هذا الحزن؟ قال: "ويحك الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، وربي لا أدري ماذا يصنع بي، ثم تنفس فغشي عليه، فترك خمس صلوات فلما أفاق فقال: إذا ذهب عقلي علي شيئاً؟ ثم، فغشي عليه صلاتين". وكان ابن السماك يعاتب نفسه ويقول لها ‏:‏ تقولين قول الزاهدين وتعملين عمل المنافقين ‏,‏ ومن ذلك الجنة تطلبين أن تدخليها ‏,‏ هيهات هيهات للجنة قوم آخرون ولهم أعمال غير ما نحن عاملون. "كتاب الهم والحزن لعبد الله بن محمد أبو بكر القرشي "( 32 )

ولهذا كان ابن مسعود رضي الله عنه قال :"رأس الحكمة مخافة الله عز وجل" ورأس الحكمة أصلها وأسها ومعناه أن المسلم العابد حقا هو الذي يخاف الله عز وجل ويمتثل أوامره ويجتن نواهيه ,والحكمة نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن التقي النقي فيفرق به بين الحق والباطل والصواب والخطأ.هذا هو حال سلفنا الكرام رضوان الله عليهم – فما علينا نحن إلا أن نراجع أنفسنا، ونفتش عن الأسباب التي حالت بيننا وبين خشية الله تبارك وتعالى -، ونتوب إليه سبحانه من قريب ندماً على ما فرطنا في جنب الله تبارك وتعالى -, وذلك حتى تزول تلك القسوة من قلوبنا. اللهم رب محمد النبي صل الله عليه وسلم أذهب قسوة قلوبنا وثبتنا على طاعتك. ". موقع من فقه الإسلام للشيخ سامي وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . ( 33 )