الهجرة النبوية ( دروس وعبر )

مع عام هجرى جديد :

_ مع قدوم عام هجرى جديد نتوقف قليلا , مع أهم الأحداث العظام ألا وهو حدث الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة , فقد هاجر النبى صل الله عليه وسلم _ وصحابته الكرام رضى الله تعالى عنهم _ وقد تركوا ديارهم وأموالهم من أجل نصرة الدين الحق , ولولا هذه الهجرة المباركة وما واكبها من أحداث لما وصل إلينا هذا الدين العظيم (الإسلام ) ولما إنتشر فى بقاع الأرض , وعندما نتأمل هذا الحادث والباعث من وراءه لم يكن هروبا ولا فرار وإنما كان من أجل بناء أمة وإقامة حضارة لأعظم دولة عرفها التاريخ الإسلامى , نهيك عن أن المسلمين كانوا يعذبون قبل الهجرة أشد التعذيب من الكفار ويعانون أشد المعاناة , ومن الذين لاقوا التعذيب على يد المشركين مما جعل رسول الله صل الله عليه وسلم يأذن لهم بالهجرة , دون مخالفة من أحد من الصحابة رضوان الله عليهم لأمر النبى صل الله عليه وسلم _  ( 1)

ومن هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر , عمار , وياسر , وسمية , وبلال , وغيرهم كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ممن حملوا مشعل الهداية وراية الدين سواء فى حياة النبى صل الله عليه وسلم وبعده , وكما قدم المهاجرون من التضحيات فى سبيل المبدأ ونصرة الدين , كذلك قدم إخوانهم من الأنصار من التضحيات أيضا مما يتسق مع روح هذا الدين الحق , فقد فتحوا لهم ديارهم وعرضوا عليهم أن يقاسموهم الأموال ويشركوهم فيما يملكون ويعيشون به , حتى جاء الثناء عليهم من الله تعالى :" والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " سورة الحشر " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (2)

دعوة للتضامن والوحدة بين المسلمين :

_ ما أحوج المسلمين اليوم وهم يودعون عاما هجريا ويستقبلون عاما جديدا , وهم يمرون فى هذه الفترات الحالكة من تاريخها , إلى أن تدعم وحدتها بين أفرادها على جميع المستويات وذلك وفق ما جاء به القرآن الكريم والسنة الشريفة المطهرة , فقد حث الإسلام أتباعه على ما يحفظ لمجتمعاتهم الوحدة والأمن العام , وذلك من خلال تلك المبادئ التى لايقوم بناء مجتمع سليم فاضل إلا بها ومنها : التضامن , والتعاون , والتكافل , قال تعالى :" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب " سورة المائدة آية 2 _ إن من ينظر ما يجرى على الساحة العربية والإسلامية , من محن وأهوال وما تمر به الأمة من شدائد ترتكب فى حق الإسلام والمسلمين نهارا جهارا , وما تكابده أمتنا من مرارة الظلم الواقع على عاتقها , وما تقاسيه من جروح تفتقد من يضمدها , أو يدفع ما يدبر لها فى الخفاء من المؤامرات والفتن والمكائد . (3)

, وهذا كله مما يدعوا المسلمين جميعا أن ينسوا أو يتناسوا خلافتهم وأن يحققوا معنى الوحدة وما تدعوا إليه من تضامن وتكافل مثلما كانت فى صدر الإسلام وعصر الفتوحات الإسلامية , وذلك عندما كان للإسلام هيبته ويبسط سلطانه على العالم من الشرق إلى الغرب , ومن الشمال إلى الجنوب وذلك بفضل إتحاد وتعاون سواعد أبنائه القوية الفتية , فقد كانوا كا لجسد الواحد ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم , وإذا إشتكى منهم عضوا تداعت له سائر الأعضاء بالنجدة والحمية , والأخذ بشتى سبل الإنقاذ ومن ثم كان للمسلمين هيبتهم وشوكتهم وذلك من خلال تضامنهم وإتحادهم , فانتشر الإسلام على أيديهم وكانت لهم الرفعة والمجد , واتسعت رقعة الإسلام حيث انتشر على أيديهم بشكل أذهل العالم فما أجوجنا إلى الأخذ بهذه المعانى من التضامن الفعلى بين المسلمين والتأسى بأمجادنا والعودة إلى منابع عزنا وفخرنا حتى نسترد سالف عهدنا الزاهر قال تعالى : ونريد أن نمن على الذين إستضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (4)

الهجرة النبوية دروس وعبر :

الرسول صل الله عليه وسلم يعد للهجرة :

_ عندما تيقن رسول الله صل الله عليه وسلم _ بما نوت عليه قريش وسادتها من القضاء عليه والفتك به , ومن قبل قد أمر رسول الله صل الله عليه وسلم _ أبا بكر الصديق رضى الله عنه _ أن يعد راحلتين من أربعة شهور لهذه الهجرة , وقد اشترى الرسول صل الله عليه وسلم واحدة منها له , والثانية لأبى بكر رضى الله عنه _ كما إستأجر أبو بكر عبد الله بن أريقط وكان على دين قريش , فتسلم الناقتين وأخفاهما وعهدهما على كتمان أمرهما , كما طلب منه أن يوافيهما عند غار ثور بعد ثلاثة أيام من خروجهما , ولما أتى أمر الله تعالى لرسوله بالهجرة , طلب من على بن أبى طالب رضى الله عنه _ إن يبقى فى مكة ليرد الودائع لأصحابها , وأن ينام فى فراشه ويتغطى بِبُرده الحضرمى الأخضر فى بيت رسول الله ومكان نومه , وذهب الرسول صل الله عليه وسلم إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه وأمره بالإستعداد للهجرة , وطلب أبو بكر من ولده عبد الله أن يأتى إليهما فى الغار ليلا بأخبار المشركين , وما يدبرون من مكائد كما أمر أبو بكر غلامه عامر بن فهيرة أن يأتيهما ليلا باللبن " يتبع " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (5)

_ على بن أبى طالب ينام فى فراش النبى صل الله عليه وسلم :

_ ويستجيب سيدنا على رضى الله عنه _ لأمر النبى صل الله عليه وسلم وينام فى فراشه , وفى جوف الليل يخرج صل الله عليه وسلم _ وهو يقرأ قوله تعالى :" يس والقرآن الحكيم ... حتى بلغ قوله تعالى :" وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لايبصرون " سورة يس آيه 9_ وهو يضع التراب على رؤوسهم , وذهب إلى دار أبى بكر رضى الله عنه _ وخرجا ليلا إلى غار ثور , وفى الصباح دخلت الكفار , وكان يوم الجمعة , دار النبى صل الله عليه وسلم _ وأيقظوا من فى الفراش فإذا هو على بن أبى طالب فخرجوا خاسرين " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (6)

_ وفى غار ثور :

_ حيث وصل النبى صل الله عليه وسلم وصحبه إلى غار ثور " وهو جبل قرب مكة وكان فى إنتظارهما عبد الله بن أبى بكر ومعه من المال خمسة آلاف دينار وهى ثروة أبى بكر رضى الله عنه _ وقد ظلا فى الغار لمدة ثلاثة أيام , وقد عشش على بابه الحمام والعنكبوت , كما نبتت شجرة لم تكن موجودة من ذى قبل وهذه معجزة , وتشتعل النار فى قلوب أهل مكة لنجاة النبى صل الله عليه وسلم _ بما جعلهم يذهبون هنا وهناك من أجل من يأت بمحمد صل الله عليه وسلم _ حيا أو ميتا وينادى المنادى فى القبائل بمائة ناقة لكل من يدل على محمد ومثلها فى أبى بكر , ويتتبعون الأثر ويسيرون حتى الغار , ولكن الله تعالى حجبهم وأعمى أبصارهم , ويحزن أبو بكر حين يرى المشركين خوفا على نبى الله صل الله عليه وسلم _ منهم و أن يبصرونهم فقال له رسول الله صل الله عليه وسلم _ مطمئنا " لا تحزن إن الله معنا " ثم خرج الرسول وصحبه فى اليوم الثالث يوم الإثنين , وقد أحضر لهما عبد الله بن أريقط الناقتين , وسافرا على بركة الله إلى يثرب " المدينة المنورة " بعد ذلك وكان معها عامر بن فهيرة " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (7)

على طريق الهجرة :

_لما علم سراقة بن مالك بما رصدته قريش لمن يأتى لهم بمحمد ( صل الله عليه وسلم ) وصحبه _ خرج مسرعا يريد بهما الأذى طمعا فى هذا العطاء , وما أن وصل إليهما , حتى ساخت قوائم فرسه فى الأرض ( يعنى غرزت أرجله ) فصرخ سراقة مستغيثا وقد كانت عثرت فرسه مرتين , ولم يأخذ العبرة من ذلك حتى المرة الثالثة , وأبى رسول الله صل الله عليه وسلم _ أن يغيثه إلا بشرط ألا يرشد القوم عنهم وألا يقاتلهم , وأن يقف مكانه بقية اليوم لرد القوم عنهم , وقد أسلم سراقة سرا , وبشره الرسول صل الله عليه وسلم بأنه سيلبس أساور كسرى , وتحقق له هذا فى عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه _ وكذلك ممن أغراهم الطمع فى العطاء بريدة بن الحصيب من بنى سهم فقد ركب فى سبعين من قومه ولقى النبى صل الله عليه وسلم وهو لا يعرفه قط , ولما عرف أن هذا محمد بن عبد الله ( صل الله عليه وسلم ) _ وصحبه أبو بكر رضى الله عنه _ أسلم بريدة ومن معه , وحل بريدة عمامته وشدها على رمح وجعلها لواء له , كما قابل الرسول صل الله عليه وسلم فى الطريق الزبير بن العوام , وطلحة بن عبيد الله فقد كانا فى تجارة لهما بالشام , وعند رجوعهما قابلا النبى صل الله عليه وسلم _ وصحبه ففرحا كثيرا وقدما للنبى صل الله عليه وسلم _ ومن معه ملابس جديدة بيضاء هدية فدخلوا بها طيبة ( المدينة المنورة ) وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (

على أبواب يثرب ( المدينة المنورة )

وفى أثناء سير الرسول صل الله عليه وسلم _ وأبو بكر رضى الله عنه _ فى الصحراء وهم فى طريقهما إلى المدينة , مروا على أم معبد , وكانت تجلس فى فناء الخيمة , وهى تطعم وتسقى من يمر بها , وقد طلب أبو بكر منها لحما أو حليبا أو تمرا يشترونه منها , فلم يجدوا عندها شيئا وقالت : والله لو كان عندنا شئ ما منعته .
ونظر الرسول صل الله عليه وسلم _ إلى شاة هزيلة من الغنم وسأل أم معبد :
هل بها من حليب ؟
فقالت :
هى أضعف من ذلك . (9)

فقال لها النبى صل الله عليه وسلم _
أتأذنين لى أن أحلبها ؟
فقالت " أم معبد " بأبى أنت وأمى إن رأيت بها لبنا حليبا فاحلبها .
وما إن أمسك النبى صل الله عليه وسلم _ بضرعها حتى بدأ لبنها يسيل
, فسقى النبى صل الله عليه وسلم _ كل من حوله , ثم حلب مرة أخرى فشربوا
وترك بعضه وقال :
_ إرفعى هذا لأبى معبد .
ثم ركب النبى صل الله عليه وسلم _ ومن معه وواصلوا السير .
وعندما عاد أبو معبد ورأى اللبن الحليب , عجب وقال :
_ ما هذا ياأم معبد ؟ من أين لك هذا , والشاة هزيلة لا تُحلب ؟
فقالت :
لقد مر بنا رجل مبارك ... ووصفته له .... فقال معبد هذا محمد الذى تبحث عنه قريش . ( 10 )

وصول الموكب النبوى إلى قباء :
وقد وصل الركب النبوى قباء على مشارف يثرب " المدينة " فى ضواحى المدينة فى يوم الإثنين 8 من ربيع الأول , وقد كان أهل المدينة يخرجون كل يوم
لإنتظار النبى صل الله عليه وسلم _ والترحيب به , وما أن وصلتهم أنباء هجرته إليهم , وما إن ظهرت طلعته البهية , حتى هبوا جميعا فى إستقباله , وكبروا فرحين بقدومه وهم يرددون :
طلع البدر علينا _ من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا _ ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا _ جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة _ مرحبا يا خير داع
(11)

ومكث الرسول صل الله عليه وسلم _ بقباء ثلاثة أيام بنى فيها مسجده , الذى مدحه الله تعالى فى القرآن الكريم بقوله :" لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه , فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " سورة التوبة آية 108 _
وقد كان هذا أول مسجد يصلى فيه المسلمون جماعة علانية آمنين .

التاريخ الهجرى :

   وما إن وصل على بن أبى طالب رضى الله عنه مهاجرا إلى قباء والرسول صل الله عليه وسلم _ مازال فيها حتى بدأ التقويم بالتارخ الهجرى يوم الجمعة 12 ربيع الأول , وفى أثناء سيره صل الله عليه وسلم _ لدخول المدينة أدركته الصلاة فى مسجد بنى سالم بن عوف فخطب الجمعة , وبعد الصلاة ركب ناقته ومن حوله أصحابه يلتفون به .  ( 12)

الرسول صل الله عليه وسلم : يدخل المدينة :

فى 16 _ من ربيع الأول سنة 622 م :

دخل رسول الله صل الله عليه وسلم _المدينة فى موكب لم تشهده من ذى قبل ,
وقد خرج الخدم والغلمان ينادون " الله أكبر " جاء محمد رسول الله , وفى وسط
هذه الحفاوة يسير الموكب والرسول صل الله عليه وسلم _ على ناقته , وأبو بكر خلفه , وتزاحم القوم كل يريد أن يأخذ بزمام ناقته , ويستضيف رسول الله صل الله عليه وسلم ويحظى به , ولكنه كان يقول خلوا سبيلها , فإنها مأمورة وكان يقول " اللهم خير لى واختر لى " وبركت الناقة عند دار أبى أيوب الأنصارى , ثم قامت وطاف المكان , ثم بركت فى مكانها الأول , فقال صل الله عليه وسلم _ " هنا المنزل إن شاء الله وقال :" رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين " وحمل أبو أيوب رحل الناقة وأدخله داره . ( 13)

نزول الرسول صل الله عليه وسلم _ بدار أبى أيوب :

عندما نزل رسول الله صل الله عليه وسلم _ ضبفا على أبى أيوب رضى الله عنه _
فرح فرحا شديدا وقد أقام رسول الله صل الله عليه وسلم _ بالدور الأول من البيت ,
وفى الصباح يأتى أبو أيوب وهو يقول للرسول صل الله عليه وسلم _ ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب ؛ فقال له صل الله عليه وسلم لم ؟ قال : أبو أيوب كنت أحق بالعلو منا
فقال له الرسول صل الله عليه وسلم " الأسفل أرفق بنا , فقال أبو أيوب , والذى بعثك بالحق لا أعلوا سقيفةً أنت تحتها أبدا , فنزل الرسول صل الله عليه وسلم على رغبته
ومكث بدار أبى أيوب سبعة أشهر حتى بنى له مسجدا , وحجرات بجواره .  ( 14)

النبى صل الله عليه وسلم فى طيبة ( المدينة )

إن حفاوة أهل المدينة واستبشارهم , عند لقاء النبى صل الله عليه وسلم _ وأصحابه
لم تكن مجرد عاطفة جارفة لهذا الدين الجديد , أو كانت رغبة للتخلص من ظلم حاق بهم , ولكنها كانت محبة متأصلة فى نفوسهم , نمت مع الزمن حيث كانوا يسمعون من أهل الكتاب وخاصة اليهود , الذين يعيشون معهم فقد كانوا يبشرون بأن الله تعالى
سيرسل من يخرج أهل هذا الكون من الظلمات إلى النور , وكانت الصفات التى أشارت إليها كتبهم فى محمد ( صل الله عليه وسلم ) ورسالته , ومن ثم كان دخول أهل المدينة فى الإسلام واستقبالهم للرسول صل الله عليه وسلم _ وحفاوتهم به عن حب ومحبة فى الله ورسوله صل الله عليه وسلم _ ( 15)

أول عمل قام به الرسول هو بناء المسجد :

لم يكن أهل المدينة وحدهم من يقومون , بالمدينة بل كان معهم خليط من الناس , من اليهود الحاقدين , والمشركين الجاحدين , والمنافين المرائين , فكان ولابد من اختيار مكان يجتمع فيه المسلمون ليتدارسوا أمورهم , وتقام فيه شعائرهم فاختار الرسول صل الله عليه وسلم _ المكان الذى بركت فيه ناقته , وكان ملكا لغلامين يتيمين هما سهل وسهيل ابنا عمرو من بنى النجار وفى وصية أسعد بن زرارة : أراد أهل اليتيمين أن يقدموا هذه الأرض هدية للرسول صل الله عليه وسلم _ ولكن الرسول صل الله عليه وسلم _ رفض ودفع ثمنها من مال أبى بكر الصديق رضى الله عنه _
وقد أمر الرسول صل الله عليه وسلم _ ببناء المسجد , وكان يشارك القوم فى حمل الطوب اللَّبن وهو يقول : " إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة "
وجعل القبلة تجاه بيت المقدس فى أول الأمر , ثم حولت شطر الكعبة , وكان عليه الصلاة والسلام يخطب على جذع نخلة ثم بنى له بعد ذلك منبرا . ( 16)

تنظيم صفوف المسلمين :

ومن أهم الأعمال التى قام بها الرسول صل الله عليه وسلم _ أنه أزال الخلافات والعدوات بين قبيلت الأوس والخزرج , وسماهما الأنصار .
وقد كان اليهود يكسبون من وراء هذا الخلاف , وكانوا يدفعون كل قبيلة لتحارب الأخرى فيضْعُفْ كل منهما , ولكن كان قدوم النبى صل الله عليه وسلم _ عليهم خير وبركة إذ آخى بين المهاجرين والأنصار , وأصبح الجميع جمعا واحدا , وأسرة واحدة , وكأنهم ولدوا من جديد .
وراح الأنصارُ يستقبلون المهاجرين فى حفلوة وترحيب , وينزلونهم فى دورهم , ويقاسمونهم أموالهم , وفى ذلك قوله تعالى :" والذين تبوءُوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم , ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة , ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " سورة الحشر آيه 9_ ( 17)

المعاهدة بين المسلمين وغيرهم :

قام رسول الله صل الله عليه وسلم _ بعقد معاهدة عامة بين المسلمين وغيرهم
فقد آخى رسول الله صل الله عليه وسلم _ بين المهاجرين والأنصار وكان يقول لكل إثنين " تأخيا فى الله أخوين أخوين " فكان هو وعلى بن أبى طالب أخوين , وعمه حمزة ومولاه زيد أخوين , وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين , وكان عمر بن الخطاب , وعتبان بن مالك الخزرجى بن زيد أخوين , وقد تكونت منهم جبهة قوية , وكونوا وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبل فى الجزيرة العربية ,
كما قضى على الخصومة التى كانت بين الأنصار من قبيلة الأوس والخزرج من حروب دامت بينهما نحو مائة وعشرون عاما , فلما أسلموا قضى الإسلام على خصومتهم وطهر قلوبهم منها . ( 18)

وقد أقر الرسول صل الله عليه وسلم _ اليهود فى هذه المعاهدة على دينهم وأموالهم
وعاهدهم على الحماية , ما داموا يُخلصون للمجتمع الذى يعيشون فيه , وقد شملت هذه المعاهدة مبادئ هامة وهى , وحدة الأمة المسلمة من غير تفرقة , والمساواة فى الحقوق والواجبات , واشتراك المجتمع كله فى تقرير العلاقات مع أعدائها , فالمسلم أخو المسلم لايظلمه , هذا مع مكافحة الخارجين عن الدولة والإمتناع عن نصرتهم
ولغير المسلمين دينهم ومالُهم , لايُجبرون على دين غير دينهم ولكن عليهم أن يسهموا فى نفقات الدولة , وعليهم أن يتعاونوا معها على منع أى خطر , وعلى غير المسلمين أن يشتركوا فى نفقات القتال , وعلى المسلمين أن يمتنعوا عن حماية الأعداء هذا مع حرية الإنتقال فى داخل الدولة وإلى خارجها . ( 19)

النظام الجديد فى المدينة المنورة :

ويبين الرسول صل الله عليه وسلم _ أنه إذا كانت مصلحة الأمة فى الصلح وجب على جميع أبنائها _ مسلمين وغير مسلمين أن يقبلوا الصلح .
وقد بارك رسول الله صل الله عليه وسلم _ هذه الرابطة القوية التى جعلت منهم مجتمع الوفاء والإخاء .
وتحت لواء الرسول صل الله عليه وسلم _ راح هذا المجتمع الجديد ينشر النور , ويبذر بذور الهدى والسلام والرشاد , حتى زال الشرك من الجزيرة العربية
وحلت عبادة الله الواحد القهار , بدلا من عبادة الأصنام والأحجار .
ومن هذا المجتمع المتعاون المتضامن , انطلقت الدعوة الإسلامية , وتحررت قيودها
ليتحقق للمجتمع الإسلامى كل أسباب القوة , ولتحمى المستضعفين والعبيد من ظلم السادة الأقوياء , ولتحمى القبائل العربية من سيطرة الروم والفرس , حتى لا يكون فى الجزيرة العربية موضع لغاصب أو دخيل , ولترتفع مشاعل النور والهداية والحرية . ( 20)

أقام الإسلام دولة قوية لم يشهد التاريخ مثلها :

وفى وسط الجزيرة العربية عاشت _ فى الدنيا لأول مرة , عاصمة دولة لاتعرف الحقد , ولا البغى , ولا الفجور , ولا القسوة , ثم تطورت الدولة بعد ذلك , فأرسل النبى صل الله عليه وسلم _ الولاة إلى جميع أنحاء الجزيرة , يَجمعون الزكاة ويَصرفونها فى مصارف التضامن الإجتماعى , فلكل فقير حاجته , ولكل متزوج إعانته , ولكل أعمى قائده , ولكل مدين سداد ديونه , ولكل من يموت فقيرا حماية أسرته بعد وفاته , وحُقنت الدماء , وحُفظت الأعراض , وتحرر الناس من الجهل
والخوف والخرافة . ( 21)