التربية الروحية وتزكية النفس ( ومعنى الإخلاص)

الرجاء والعمل :

_ جاء فى الأثر عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل وإن قوما غرتهم الأماني وقالوا نحسن الظن بالله وكذبوا ولو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل " ويقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله فى حكمه " الرجاء ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية " والتقوى فى الأصل الرجاء والأمل بل إنها كل شئ إذا حلت فى قلب المسلم فإنها تدفعه الى المواظبة على العمل الصالح وسلوك سبيل الخير فى كل أعماله وأقواله وسائر تصرفاته وكلنا يريد النجاة والسعادة فى الدنيا والآخرة بل إن ذلك هو الغاية القصوى والمؤملة عند كل ذي عقل فالسعادة الحقيقة لاتكون الا فى تقوى الله والإيمان به سبحانه والعمل بكتابه ونهج سبيل المؤمنين والتزام سنة سيد المرسلين صلوات الله عليه وسلامه والخضوع له سبحانه لا لأحد غيره وأن يقول الحق مهما ظن الناس به أو تقولوا عليه والأعمال لاتقوم ولا تصلح الا على الإخلاص لله سبحانه وهذا هو سر ما قاله ابن عطاء الله رحمة الله عليه " الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها " اللهم إجعل أعمالنا صالحة ولوجهك خالصة ولا تجعل لأحد منها شئ " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة (1 )

بين الإخلاص والعمل :

_ قال تعالى " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " سورة الكهف وقال تعالى " ألا لله الدين الخاص والذين إتخذوا من دونه أولياء مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " سورة الزمر إن الإخلاص لله تعالى فى كل عمل يقوم به المسلم لهو طريق الفلاح والنجاح فى الدنيا والآخرة ولكن كثير من الناس يتلونون بأعمالهم ويرآءون بعلمهم يقول النبى صل الله عليه وسلم " من طلب العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار " وهذا الجزاء من الله يجعل المسلم قبل أن يقول ويكتب هل هو مخلص فيما يكتب وما يقول حتى لايكون يوم القيامة من أول ماتسعر به نار جهنم رغم أنه عالم فإنه يبدأ به قبل عبدة الأوثان ويقولون يارب لم بدأت بنا قبل عبد الأوثان قال الله تعالى ليس من يعلم كمن لايعلم وقد صحت بذلك الأحاديث أن الذى يتعلم العلم لغير الله لايشم رائحة الجنة , فلماذا نصر على الرياء فى أعمالنا وهو طريق يأخذ بنا إلى نار الله الموقدة التى تطلع على الأفئدة وعلينا أن نخلص الدين والعمل لله ونثوب إلى رشدنا بتوبة نصوح مادامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح وقد ورد عنه صل الله عليه وسلم " لاتخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه ولو يشعر , قيل يارسول الله صل الله عليه وسلم " كيف يخادع الله ؟ قال بما أمرك الله به وتطلب به غيره , واتقوا الرياء فإنه الشرك وإن المرائى يدعى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء ينسب إليها يا كافر _ يا فاجر _ ياغادر _ يا خاسر _ ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له " قال تعالى " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صفحة (2)

الإسلام والإخلاص
قال تعالى " ألا لله الدين الخالص " سورة الزمر
الإخلاص هو إفراد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة والطاعة والتقرب إليه بالأعمال الصالحة فإذا كان العمل قاصدا به وجه الله تعالى أثيب عليه وأجزل لصاحبه الثواب والعطاء وأما إذا قصد بعمله التظاهر والرياء فعمله مردود عليه ولا خير فيه ولا فائدة إلا الجهد والمشقة لأن الله تعالى غنى عن الئرك ولا يرضى أن يكون له شريك فى الطاعة " قال تعالى " وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين " الآية 15- سورة الأحقاف وقال تعالى " وما أمرو إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " سورة البينة الآية 5_ وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صفحة (3)

أنواع الإخلاص
والإخلاص يعنى الإحسان فى العمل وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وقد اوحى الله تعالى إلى نبى من أنبيائه " يعبدنى عبادى طمعا فى جنتى أو خوفا من نارى ألم أستحق العبادة ولو لم أخلق جنة ولا نار ؟ وقال الإمام النووى رحمه الله تعالى " الإخلاص على ثلاث مراتب , أولها , أن يعبد العبد ربه خوفا منه , وهذه هى عبادة العبيد , وثانيها , أن يعبده لطلب الجنة والثواب , وهذه هى عبادة التجار , وثالثها , أن يعبده حياء منه ويرى نفسه مقصرا أو قلبه خائفا أيقبل من أم لا ؟ وهذه هى عبادة الأحرار وقال صل الله عليه وسلم يقول الله تعالى فى الحديث القدسى " أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا , وأشرك فيه غيرى تركته وشريكه " ويقول صل الله عليه وسلم " إن الله تعالى لايقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه" وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صفحة (4)

نماذج وعبر
وفى عهد عمر بن عبد العزيز _ رضى الله تعالى عنه _ كان الذئب يحرس الغنم فسئل فى ذلك فقال ( أخلصت ما بينى وبين ربى فأخلص الله ما بين الذئب والغنم )
وقال الفضيل بن عياض " العمل لأجل الناس رياء , وترك العمل لأجل الناس شرك , والإخلاص أن يعافيك الله منهما " وقد جاء إلى رسول الله صل الله عليه وسلم وقال يارسول الله , إنى أقف الموقف أريد به وجه الله وأريد أن يرانى الناس , فلم يرد عليه الرسول صل الله عليه وسلم حتى نزل قول الله تعالى " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " سورة الكهف الآية 110_ ويقول صل الله عليه وسلم " لا يقبل الله عملا فيه مثقال حبة من خردل من رياء "
فالله تعالى " غنى عن الشرك ولا يرضى أن يكون له شريك فى الطاعة والعبادة لأنه سبحانه المتفرد بكل شئ والمهيمن على كل شئ وهو الرازق والمعطى ذو القوة المتين وذو الفضل والإحسان وهو على كل شئ قدير" صفحة(6) وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الإخلاص وحقيقته فى القرآن :

_خلق الإخلاص من أهم مقومات البناء , الصالح للشخصية السوية وتربية المؤمن الحق والنية الصادقة هى أساس العمل المرضى عند الله تعالى , والقرآن الكريم يتحدث عن الإخلاص حديثا يبين لنا مكانته وما له من أهمية فى إعداد المسلم  قال تعالى :" فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص " سورة الزمرالآية 2_  ولأهمية هذا المقوم الفعال فى سلوك المؤمن ومنهج حياته , نجد الإمام البخارى رحمه الله تعالى يبتدأ صحيحه بحديث :" الأعمال بالنيات " وكذلك الإمام المنذرى رحمه الله تعالى فى كتابه " الترغيب والترهيب " والإخلاص معناه وحقيقته , التنقية والتصفية والتهذيب
السلوكى والعملى , صفحة ( 7) وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والإخلاص فى العبادة هو أن تكون لله وحده وترك الرياء فيها والإخلاص فى العمل , هو اتقانه وأداؤه بأمانة وصدق مع مراقبته سبحانه يقول الإمام الجنيد رحمه الله _ الإخلاص هو تصفية العمل من الكدورات " ومن هنا كان الإخلاص يدل على حسن العبادة واتقان العمل , والمسلم يؤدى ما عليه من تكاليف بإخلاص وكأنه يرى ربه , وهو يعبده فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه من قبل ومن بعد يقول تعالى : وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير " سورة الحديد الآية 4_ ويقول النبى صل الله عليه وسلم :" إن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء " وهم الذين يُخلصون فى أعمالهم ثم لايريدون إلا وجه الله تعالى الكريم
فاللهم اجعل أعمالنا صالحة ولوجهك خالصة ولا تجعل لأحد منها شئ "
وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صفحة (

الإخلاص حقيقته ومعناه :

_ إن من أعظم المهمات التى بعث بها نبي الرحمة ورسول الهدى صل الله عليه وسلم بالإضافة  الى تبليغ ما أنزل الله إليه فى القرآن الكريم وتلاوة آياته هى تزكية النفس كما قال ممتنا ببعثته صل الله عليه وسلم " هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين سورة الجمعة ومن هنا كان لزاما على من يرجوا الله واليوم الآخر الاهتمام بتزكية نفسه لأن الله تعالى علق فلاح العبد بتزكية نفسه وذلك حيث قال وأقسم بذلك " والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسها " سورة الشمس
وعن معنى الإخلاص _ لقد مدح الله الإخلاص وبين ثواب المخلصين وما أعده لهم ليكون ذلك باعثا للخلق على تحلى الإخلاص ومباعدة الرياء " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  ( 9)

والإخلاص معناه _ هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق قال تعالى " وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة" سورة البينة وقال تعالى " ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى "وقال تعالى " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا لايشرك بعبادة ربه أحد " سورة الكهف وفى معنى الإخلاص وحقيقته من حديث أنس رضى الله تعالى عنه قال عنه صل الله عليه وسلم :" إن الملائكة يرفعون عمل العبد فيكثرونه ويزكونه فيوحي الله تعالى إليهم أنتم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما فى نفسه إن عبدي إن عبدي لم يخلص فى عمله فاجعلوه فى سجين " ويصعدون بعمل العبد يستقلونه فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما فى نفسه فضاعفوه واجعلوه فى عليين " ولأهمية الإخلاص قيل فى معناه " أن الإخلاص الحقيقي أن يفقد العبد رؤية الإخلاص فى أعماله ومن شاهد من إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  (10)

والمقصود بالتربية التربية العملية المتكاملة المتضمنة لحسن فهم الدين والإيمان به إيمانا يدفع الى العمل به والعمل له وذلك بالأسوة الحسنة " قال تعالى " لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " سورة الأحزاب

والتزكية معناها التطهير والتملص من الذنوب
والطهارة أربع أنواع
1_ تطهير الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات
2_ تطهير الجوارح من الذنوب والآثام
3_ تطهير القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة
4_ تطهير السر عما سوي الله تعالى وهذا هو الغاية القصوى من الطهارة
فهو سبحانه ينميهم بالتوحيد والفضائل فالتزكية تتضمن النحلية والنخلية
وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة ( 11)

عن حقيقة الإخلاص :

_ روى ابن ماجة عن النبى صل الله عليه وسلم " إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله أما إنى لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية " وفى رواية :" يصبح العبد صائما فتعرض له شهوة من شهواته فبواقعها ويدع صومه "
وقال تعالى " الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " سورة الملك وقال الفضيل بن عياض _ رضى الله تعالى عنه _ أخلصه أصوابه ؟ فقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل _ والخالص أن يكون لله ( يعنى لايرائي بعمله لأن الرياء شرك والصواب أن يكون على سنة رسول الله صل الله عليه وسلم وقرأ قول الله " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن " فا إسلام الوجه إسلام القصد بالعمل لله وحده والطلب منه وحده وهذا معنى لا اله الا الله  "  وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  ( 12)

والإحسان فيه يكون بمتابعة رسول الله صل الله عليه وسلم وعدم مخالفته _ والأعمال والأقوال إذا خلت من هذان الشرطان _ الإخلاص لله _ والمتابعة لرسول الله صل الله عليه وسلم " صارت ضائعة قال تعالى " وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلنها هباء منثورا " سورة الفرقان والعبد لايتخلص من الشيطان ووساوسه الا بالإخلاص لقوله تعالى " ولأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين " ولهذا كان بعض الصالحين يقول لنفسه _ أخلص تتخلص والإخلاص أشد على النفس من الأعمال "
وقال الفضيل ابن عياض العمل لأجل الناس شرك وترك العمل لأجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما وحديث النبى صل الله عليه وسلم " إياكم وشرك السرائر وهو أن يقوم الرجل فيصلى فيزين صلاته لما يرى من نظر الناس إليه فذاك شرك السرائر " ولهذا قيل _ طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لايريد بها الا الله تعالى وذلك لأن الإخلاص عزيز " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  ( 13)

أهمية العبادات فى تزكية النفس :

_والعقائد والعبادات التى شرعت فى الإسلام واعتبرت أركانا فى الإيمان بين القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة الغاية من مشروعيتها التزكية والتطهير _ فالصلاة الواجبة عندما أمر الإسلام بها بين الحكمة من إقامتها فقال تعالى " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " سورة العنكبوت
فالبعد عن الرذائل والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة والغاية من إقامتها وفى الحديث يرويه النبى صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى " إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ولم يستطل على خلقي ولم يبت مصرا على معصيتي وقطع النهار فى ذكرى ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة ( 14)

والزكاة المفروضة نص القرآن الكريم على الغاية من إخراجها قال تعالى " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها وصلى عليهم إن صلاتك سكن لهم " سورة التوبة
فتنظيف النفس من أدران النقص والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أفضل هو الحكمة من مشروعية الزكاة
وكذلك شرع الصيام فليس المقصود من أدائه حرمان النفس من اللذات وإنما الغرض امتناع النفس عن شهواتها المحظورة ونزواتها المحرمة وإقرارا لهذا المعنى من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه عن النبى صل الله عليه وسلم " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخارى
وفرض الله تعالى الحج على المسلم المستطيع مرة واحدة وبين أن الحج ليس رحلة مجردة عن المعاني الخلقية فقال تعالى " الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج " سورة البقرة وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة ( 15)

وبعد هذا العرض الموجز لبيان أثر العبادات فى تهذيب النفس الإنسانية وقد عرفت أنها أركان أصيلة من ترك منهن واحدة فهو منحرف عن دينه بعيد عن صراطه فالصلاة والزكاة والحج وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام هى مدارج الكمال المنشود وروافد التطهير الذى يصون الحياة ويعلى شأنها ولهذا أعطيت هذه العبادات منزلة كبيرة فى دين الله
فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلبه وينقى لبه ويهذب بالله تعالى وبالناس صلته فقد هوى وابتعد عن طريق الله
قال الله تعالى " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لايموت فيها ولا يحيا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجرى تحتها الأنهار وذلك جزاء من تزكى " سورة طه
وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صفحة (16)

حقيقة النية وفضلها :

_ روى الحاكم عن النبى صل الله عليه وسلم أنه قال " من أحسن بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته "
وروى أبو نعيم فى الحلية _ عن النبى صلى الله عليه وسلم " ما أسر عبد سريرة الا ألبسه الله تعالى ردائها إن خير ا فخير وإن شرا فشر "
وروى الطبراني عنه صل الله عليه وسلم " من كانت له سريرة صالحة أو سيئة أظهر الله تعالى عليه رداء يعرف به "
ولهذا فإن تخليص النيات على العباد فى أعمالهم أشد عليهم من جميع الأعمال
ولأن النفس ليس لها من النية نصيب فالنفس تحب الشهرة والظهور وطلب المدح والثناء وحب الرياسة وتميل الى البطالة والكسل وزين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " سورة آل عمران  وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة ( 17)

فأشد شئ على النفس إخلاص النية لله عز وجل ولهذا كانت الأعمال لغير الله أقسام فمنها الرياء المحض لايراد به سوى مراءة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين فى صلاتهم قال تعالى " وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا " سورة النساء
وقال تعالى " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون " سورة الماعون
وكذلك أعمال الكافرين وصفت بالرياء المحض فى قوله تعالى " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " سورة الأنفال وهذا الرياء المحض لايصدر من مسلم فى فرض الصلاة والصيام وقد يصدر فى الصدقة الواجبة والحج وغيرها فى الأعمال الظاهرة "  وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة
                               (18)

وقد يكون العمل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه الرياء فى أصله فهو باطل ومحبط أجره وثوابه وفى الحديث عن شداد بن أوس أن النبى صل الله عليه وسلم قال " من صلى يرائي فقد أشرك _ ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك فإن الله تعالى يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بى شيئا فإن جودة عمله قليلة وكثيرة لشريكه الذى أشرك به وأنا عنه غنى رواه الإمام أحمد فى مسنده
كل هذا يؤكد ما يعتقده المسلم فى خطر النية وعظم شأنها وكبير أهميتها ولذا فهو يبنى سائر أعماله على صالح النيات كما يبذل جهده فى ألا يعمل عملا بدون نية أو نية غير صالحة إذ النية روح العمل وقوامه صحته من صحتها وفساده من فسادها والعمل من غير نية صاحبه مراء متكلف ممقوت"   وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  (19)

وكما يعتقد المسلم أن النية شرط واجب فى قبول الأعمال فإنه يرى أن النية ليست مجرد لفظ باللسان أن يقول نويت وصح عن ابن عمر رضى الله تعالى عنه أنه سمع رجلا عند إحرامه يقول اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال له : أتعلم الناس أو لليس الله يعلم مافي نفسك وقد قيل للإمام أحمد أتقول قبل التكبير يعنى فى الصلاة شئ قال لا فالتلفظ بالنية عند أى عمل أمر غير مشروع وهو محدث يعنى بدعة بإنفاق الأئمة الأربعة وعامة السلف
والنية انبعاث القلب يجرى مجرى الفتوح فى الله فقد تسير فى بعض الأوقات وقد تتعذر فى بعضها فمن غلب عليه أمر الدين سهل عليه إحضار النية للخيرات لميل قلبه إليها ومن مال قلبه الى الدنيا وغلبت عليه تعذرت عليه النية ولا تأتيه الا بجهد جهيد " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم " صفحة (20)

النية ركن فى العمل باعتبار البداية وشرط باعتبار الاستمرار:

_ إذ حسن النية هو الذى جعل غير الغازي فى الأجر كا الغازي وجعل المجاهد يحصل على أجر كالمجاهد ومن قوله صل الله عليه وسلم الذى رواه البخارى " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار فقيل يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول فقال لأنه أراد قتل صاحبه فسوت النية الفاسدة والإرادة السيئة بين قاتل مستوجب النار وبين مقتول لولا نيته الفاسدة لكان من أهل الجنة "
وروى الإمام أحمد وابن ماجة " من تزوج بصداق لا ينوي أدائه فهو زان _ ومن أدان دينا وهو لا ينوى قضاءه فهو سارق فالنية السيئة تقلب العمل المباح حراما والجائز ممنوع وما كان خاليا من الحرج أصبح ذا حرج " . وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  ( 21)

وهذا يؤكد لنا خطر النية وعظم شأنها وكبير أهميتها ومن حديث ابن ماجة عنه صل الله عليه وسلم " إن الأعمال بخواتمها كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه وإذا خبث أسفله خبث أعلاه " وبعد فلندعوا كما دعا رسول الله صل الله عليه وسلم " اللهم أصلح سريرتي حتى توافق علانيتي وأصلح لى شأني كله " والعمل من غير نية عناء والنية من غير إخلاص رياء والإخلاص من غير تحقيق هباء "
ولهذا يقول النبى صل الله عليه وسلم من حديث زيد ابن ثابت قال " من كانت الدنيا همه فرق الله شمله وفى لفظ أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا الا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة رواه أحمد وابن ماجة  وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  ( 22)

وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن رسول الله صل الله عليه وسلم قال " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمريء ما نوى فمن كانت هجرت إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه رواه البخارى ومسلم
وقال الإمام الشافعي رحمه الله
هذا الحديث ثلث العلم ولذالك قيل أصول الإسلام على أربع أحاديث
حديث الأعمال بالنيات _ وحديث من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد _ وحديث النعمان بن بشير _ الحلال بين والحرام بين _ وحديث إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة ( 23)

شرح حديث الأعمال بالنيات ( فضل النية)

وفى رواية " العمل بالنية "  

_ وهذا الحديث الذى معنا يتناول مبدأ هاما من المبادئ الدينية الراسخة هو أن الإسلام دين حقيقة وجوهر وليس دين زيف أو مظاهر خادعة فيقرر
1_ أن النية معيار لتصحيح الأعمال فإذا صدقت النية صلح العمل وإذا فسدت النية فسد العمل فكل عمل مرتبط فى قيمته والحكم عليه بالنية التى صاحبته والبواعث النفسية التى دفعت إليه والإسلام يحبذا العمل من أجل اصلاح الفرد والمجتمع
_2 أن الهجرة لله ورسوله هى التى خلصت فيها النية لها كهجرة المؤمنين من مكة إلى المدينة لإعلاء كلمة الدين والجهاد فى سبيله لا لغاية أخرى من الغايات التى يسعى وراءها طلاب الدنيا
ومثلها الهجرة الخالصة للحج والجهاد ونشر الدعوة وحضور المؤتمرات الإسلامية التى تعمل على تبادل البحوث والآراء وتصفية الحقائق ومناقشة ما حل بالإسلام والمسلمين والرد على المزاعم المسمومة التى تعمل على التشكيك فى الإسلام وأتباعه ونشر الدعوة وجمع الكلمة عليها إلى غير ذلك من كل ما يرقى المجتمع الإسلامي ويخدم أهدافه " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة ( 24)

_3 التحذير من الجري وراء الأهواء والانسياق إلى مطالب النفس التى تبعد الإنسان عن الالتزام بطاعة الله كالهجرة المقنعة بقناع الدين والغاية منها الدنيا وقد ذكر الحديث من صور الهجرة ما كان نفر من المهاجرين يقصد إليه لهجرته كالتجارة أو البث عن عمل أو غير ذلك من مطالب الدنيا كما ذكر منها الخروج وراء المرأة يسعي المهاجر إلى الزواج منها قال ابن مسعود رضى الله عنه كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه " مهاجر أم قيس ) ويمتد الحديث بمفهومه كما تقدم إلى غير الهجرة من كل عمل يقدمه المسلم فليس يرضى الدين عن العبادة للاحتيال والخداع وعن الصدقة للرياء " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  ( 25)

والتظاهر ونشر البحوث الدينية للشهرة والتبرع للحصول على منصب إلى غير ذلك مما يخالف ظاهره ما وراءه من البواعث والحديث يعلمك أن تكون صادق السريرة خالص العمل وأن تبتعد ما وسعك الجهد عن الرياء وأن تعنى بحقائق الأمور لا بشكلياتها ولاشك أن هذا الصفاء فى أفراد المجتمع الإسلامي يجعل منه مجتمعا قويا جديرا بالدين القويم الذى ينتسب إليه ويستظل بظله "
وقول النبى صل الله عليه وسلم " إنما الأعمال بخواتمها " وقوله " إنما الأعمال بالنيات "
والنية الصالحة لا تغير المعاصي عن مواضعها فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله صل الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " والنية الحسنة لا تبرر فعل الحرام "
والأعمال أقسام ثلاثة _ الطاعات _ والمباحات دون المعاصي إذ الطاعة تنقلب معصية بالقصد والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد أما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد ودخول النية فى المعصية يضاعف وزرها وعظم وبالها فمن قصد بعبادة لله وحده فنوى الرياء صارت معصية والمضاعفة للفضل فبكثرة النيات الحسنة " وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  صفحة  (26)